فضاءات الدهشة

يهتم بالكتابة المدهشة..رئيس التحرير أحمد الفلاحي

قصة وسرد

رجل صامت، مدينة تضحك

زياد خداش

 

*إلى أمير داوود

 

نهار عادي، هكذا بدا، المدينة: سيارات، مارة ، شمس طفلة، تركض نحو شباب عنيف، بيوت تنهض، تجار يفتحون محلاتهم، وانا، ذاهب الى المقهى، بيدي حقيبة كتب واوراق، ولا شيء غير عادي ابدا، بالعكس تماما، فقد بدا هذا اليوم عاديا اكثر من اللزوم وهذا ما اخافني، انا اخاف السكون الزائد عن الحاجة احس دائما بأن ثمة ضجة ما تكمن بخبث خلف كل صمت، لا دهشات في وجوه الناس، لا تحفز لشيء، لا قلق، لا فرح لا ملامح، جلست، المقهى صغير، هنا سأنتظر طالبة جامعية لا أعرفها، هاتفتني مساء امس لتتعرف مصادر الكوابيس، وسر النهايات المسدودة في قصصي، وضع النادل فنجاة قهوة امامي، اخرجت كتابا، بدأت اقرأ وبين فقرة واخرى، كنت ارتشف من فنجاني، في لحظة ما انتبهت الى وجود ثلاثة شبان بجانبي، لكني لم اعرهم اهتماما، لم ابذل جهدا جسميا او ذهنيا لأراهم، الكتاب مثير جدا، من النوع الذي يهز اليقين، كنت دائما اقول: إن قذيفة مدفعية تعجز عن انتشالي من كتاب يمتلك قابلية تغييري، لكن ذلك كان محض شعار من شعاراتي الكاذبة، التي ارفعها، حماية لهيبتي ومكانتي، انفجرت بجانبي ضحكة ضخمة، صدرت من احد الشبان الثلاثة، ضحكة مقززة من النوع الذي يقودك فورا دون ان تدري الى الاعتذار للمزهرية المجاورة، او اللوحة المقابلة، نيابة عن فظاظة البشرية، التي تنتمي اليها انت، رفعت رأسي عن الكتاب، نظرت الى الشارع، المارة يتزايدون، يموجون، زعيق السيارات يتعالى، الشمس كبرت، صارت مراهقة الآن، سقطت في الكتاب من جديد، عاذرا للشاب ضحكته المعادية، التي قد يكون اجبر عليها، فهناك اشياء كثيرة تضحك الى درجة الوحشية في هذا الوطن، ثم انني ادعو دائما في كتاباتي ومواقفي الى حرية الصراخ والجنون والضحك والكتابة والجنس والحب والسفر، فلماذا اناقض نفسي؟ غارقا في نهر الصور و الكلمات كنت حين انفجرت ضحكة اخرى من شاب آخر، على طاولة قريبة، تنهدت، نظرت الى الشبان الثلاثة، كانوا يضحكون بشكل متواصل، ضحك غريب، خليط هو من بكاء، استهتار، توحش، الم، اجسامهم تتمايل على بعضها، دموعهم تسيل، ضحكات، ضحكات، ضحكات، المقهى كله يضحك الان، النادل نفسه يضحك مع احد الزبائن، ورجل عجوز يضحك بلا أسنان مع رجل آخر، نهضت، تحركت باتجاه النادل، وضعت امام الطاولة ثلاثة شواكل، لم ينتبه النادل، خرجت، اخيرا خرجت من مقهى الضحك قلت لنفسي: هذه مدينة مجنونة حقا، مشيت باتجاه، لم أحدده، لم افكر الى اين سأذهب، حتما ستتصل الطالبة، ان لم تجدني في المقهى، مشيت، مشيت، جلست على رصيف شارع متنزه البردوني، اخرجت نفس الكتاب تركت نفسي اسقط فيه من جديد، غبت عن الوعي فترة قصيرة، انفجارات اخرى، نظرت حولي، كانت امرأة بدينة تضحك مع صديقتها بشراهة كأنها تقضم جدارا أو تبتلع مفترقا، بعد برهة، شاركتها صديقتها الضحك، فاهتز الرصيف تحتي، وتطاير ورق كتابي، الغريب ان احدا من المارة وزبائن المتنزه لم يستهجن هذه الضحكات القاسية غيري، هربت بعيدا، مشيت على رصيف شارع مكتبة رام الله، مرت عني سيارة تمشي ببطء، بداخلها رجل وزوجته واطفاله الثلاثة، كانوا كلهم يضحكون بصوت عال، لدرجة ان السيارة اصطدمت بشجرة، لكن ركابها لم يتوقفوا عن الضحك، نزلوا الى الشارع، تعالت ضحكاتهم، ركضت هاربا، نحو شارع المقبرة، هناك مشيت بهدوء، فالاموات لا يضحكون، فتحت الكتاب، وغطست، لكن ضحكا مفاجئا، مخنوقا، قادما من داخل المقبرة ايقظ ذهني، وجمد عقلي، لم استطع التفكير، اعتقدت اني احلم، لكني كنت على يقين كامل اني لم اكن كذلك تحاملت على قدمي المنهارتين نحو شارع فرعي، سقطت فوق راسي كحجارة كبيرة عشوائية الشكل، ضحكات صاخبة لرجال خشنين جدا، يجلسون في شرفة بيت، حاولت ان اركض، خانتني رجلاي، سقطت على وجهي، زحفت على بطني، تاركا الحقيبة والكتاب، الى اين امضي يا الهي،؟؟ طوحت بجسدي وخوفي في شارع فندق روكي شارع هادئ، انيق، كانت الشمس عمودية وقاتلة، ولا احد في الشارع، شعرت براحة كبيرة، فلا بشر هنا، مر امامي قطيع كلاب، فاطمأن قلبي، هذا يعني ان لا تهديد هنا، لكن طمأنينة قلبي تمزقت، امام ناظري وانا أسمع ضحكات الكلاب الادمية، يا الله، اغثني، حتى الكلاب ؟؟؟ وجدت نفسي اصعد التلال المطلة على معتقل عوفر، لاهثا، متصببا عرقا ورعبا، لماذا يضحكون؟ مالذي يدفعهم لهذا الضحك الهستيري المزعج ؟؟، اه لو استطيع ان اشاركهم هذا الضحك، انا احب الضحك ولكن ليس دائما، وضحكي معقولة ضجته وهو خفيض وراقٍ، هل هناك ضحك راق؟؟، احس ان الضحك العنيف هو الية دفاع غير واعية ضد عنف متوقع، او خوف دائم من خطر ما، يحسه الضاحك قادما لا محالة، ولكن هل يعني هذا انني لا اعاني خوفا ما من خطر قادم؟ وانني خارج قانون النفس البشرية، وخارج تأثير اوضاع البلد؟

لا ادري، انا ادري فقط اني لا ارغب في الضحك مثلهم، وتخيفني طريقتهم فيه، سأبقى جالسا هنا في هذا الكهف القريب من قرية رفات، سأنتظر الظلام، لأزحف، متسللا الى بيتي، مغلقا خلفي الباب، ومقفلا اذني بقطن ثقيل، كم هو طويل هذا اليوم !! وكم انت مراوغة ايتها الشمس العجوز !!، على كتف موجة الظلمة الاولى اتكأت خارجا من كهفي، مشوش الافكار، غير قادر على فهم ما جرى، المدينة شبه صامتة الان، السيارات قليلة، المارة قليلون، هادئون، رائع هو هذا المساء، استعدت جزءا من ثباتي، مشيت بخطوات قوية، انا ذاهب الى غرفتي الان، غرفة صغيرة، تقع على طرف المدينة، غدا سأبحث عن حقيبتي وكتابي، التقيت صديقي في الطريق، كان يقف على الرصيف منشغلا بحديث مع حببيته بهاتفه المحمول، لم اتحدث معه، وقفت بجانبه صامتا، فقد عقدت معه صفقة عدم ازعاج مشتركة اثناء اتصال احدنا بحبيبته، على الاخر أن يتحمل، ويصبر صامتا اتأمل المدينة الذاهبة ببطء الى استرخائها الليلي، فجأة انفجر صديقي بضحكات مروعة، تشبه استغاثة ساخرة، رأيت الدموع تسقط من عيني صديقي، حتى انت يا صديقي؟ ابتعدت عنه، مشيت ، سمعت خلفي شخصا يقول: بالتأكيد اتصلت الطالبة على هاتفك المحمول، هو في الحقيبة الان يرن، او لعله يضحك، ها ها ها ها ها ها، هاتف محمول يضحك، بدل ان يرن، يا لها من فكرة مضحكة ! هاهاها هاهاهاهاهاها، بدأ الشخص يضحك بشكل هستيري، لم يتوقف هاتف يضحك هاهاهاها، تجمع الناس حولي، كانوا يضحكون، الكل يضحك، بصوت عال ومخيف، المدينة تمتلئ بالضحكات، الضحكات تسيل على الشوارع وتفيض على المفترقات والمنحدرات، خرج الناس من بيوتهم، ضحكات ضحكات ضحكات، هاتف محمول يضحك هاهاهاهاهاهاها، هاهاهاهاهاها، رايت نفسي اهرب مرة اخرى، الشارع المؤدي الى غرفتي ممتلئ بالضحكات، اتجهت الى شارع اخر، مشيت، الضحكات تتدفق خلفي: هاتف محمول يضحك، هاهاهاهاهاهاهاها، اتكأت على جدار مبنى، كنت الهث، قلت لنفسي: لماذا لا اضحك مثلهم؟

فعلا الفكرة مضحكة، هاتف محمول يضحك، هاهاهاهاهاها، بدأت اضحك بصوت عال، سكتت ضحكات المدينة، سكتت تماما، وجدت نفسي اضحك وحدي، المدينة ساكتة، ساكتة، ساكتة، أنا أضحك، أضحك أضحك، أضحك.

 

                                ________________

من مجموعة (خذيني إلى موتي).1999

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *