فضاءات الدهشة

يهتم بالكتابة المدهشة..رئيس التحرير أحمد الفلاحي

كتابات

الشعر على حدود التجريب والاجترار

د. حاتم الصكر

تأثيرات وتأثيرات مقابلة.

يرتبط الراهن الشعري عضوياً بالراهن الثقافي العام – بالمعنى المتّسع والمتمدد للثقافة والمتجاوز لحصرها التقليدي بما هو أدبي، فهي هنا تعني مجموعة أنساق وسياقات من التقاليد والموروث وطرق العيش والتعامل والقواعد والعادات والنتاج الفكري الشعبي والرسمي كما يظهر في حياة الفرد وينعكس في ملفوظاته وأفعاله ومعتقده وأفكاره – و الشعر متأثر بالقيم والمواضعات الزاحفة والمرحّلة من الإجتماعي والسياسي والإقتصادي إلى الثقافي. وعلينا البدء من هذه المسلّمة لكي نرى حقاً ما يعيق المشروعات التحديثية لأنها المتضررة أولا بتلك التراجعات والخسائر والفقر المصاحب لها نتيجة هيمنة الأنظمة والأعراف التسلطية والاستبدادية وتكريس الأفكار المتوارثة دون تمحيص أو مراجعة لا سيما في مظاهرها الأبرز والأكثر حدة كالموقف من المرأة وطرق التعليم والنظرة إلى العلم والمعرفة والكتابة في فضاء الحرية المفتقد والمنسوب إلى الحلم والمشروعات المؤجلة دوما.
أما المتحقق والراهن الثقافي كجزء من المنظومة الاجتماعية والسياسية والفكرية السائدة فهو فضاء تنتعش في مناخه المشروعات الظلامية مستفيدةً من الفقر الروحي والخواء واستسلام الفرد لأقدار عمياء لا رأي له فيها ولا اختيار. ولكن ما ينعكس ثقافياً على الأنواع والأشكال الشعرية يؤثر بالسلب ثلاثياً عليها فهو من جهة أولى يعيق تحديثها ويعطل وتائر تطورها داخلياً، وتداولياً: بعزل الشعر عن محيطه القرائي ويتراجع تقبل الشعر إلى مراتب دنيا في تسلسل الأولويات الحياتية التي تضغط بدوافع الحرمان والعسف.
ومن جهة ثالثة تسمح ببروز رؤى متخلفة أو عتيقة ربما صار تجاوزها واقعاً في الفن نفسه لكنها تعود بقوة السلطة والمعتقد والبطش والفقر. تلك في ظني سياقات لا تنفك عن معاينة الراهن الشعري لأنها تحفّ به وتؤطّره وتدخل كذلك في تشكيله وصياغته.
ولكنَّ المراقب للمشهد الشعري العام يمتلك بعض التفاؤل لمبررات أستطيع تبيان بعضها لأنني من فريق التفاؤل. هذا كما ينعكس في كتاباتي وترجمة لقناعتي بأن التقاليد الشعرية العربية ذات جذور وتاريخية متقدمة في الزمن تسمح بتوقعات وإمكانات لا تطابق الراهن الخارجي أو السياقي لاشتغالها مستقلةً عن ذلك التأثير لكنها تدفع مقابل عمل آلياتها الدفاعية ثمناً ليس هيّناً يتمثل في زيادة عزلتها وافتقادها التأثير في الوعي السائد وتحوير أفق التلقي الجمعي وجعله معتقداً بإمكان التحديث ومدياته اللا محدودة. وهذا أيضاً في منظور معرفي معمق للشعر وأنساقه ومكانته في المعرفة الإنسانية لا يعيدنا إلى الهلع والخوف من التجمد في الجسد الشعري ، لأننا نعد نخبوية الشعر ميزة جمالية وتقبلية وصفية لا نقصاً فيه بذاته.
وهو قدر الشعر منذ بدء الخليقة وهذا يفسر غربة الشاعر والقصيدة في المجتمع إلا في حال توظيفهما لخدمة مباشرة – كالنيابة عن القبيلة أو الحزب مثلا – تختفي معها الذات الشعرية ويسود النمط.
لكن التشظي الجغرافي والسياسي أفاد القصيدة العربية الحديثة بخلق مناخات متعددة ومتباينة صارت مصدر ثراء وتنوع وتجريب، ووفرت تلك التعددية أجواءً متنوعة ومفتوحة لا لأنها بمنأى ومنجى من العسف والخوف مثلاً بل لأن الملفوظ الشعري يتلون هنا بالمحيط الذي تنتج فيه القصيدة.
ورغم أنني من الذين يلاحظون عدم تفاعل قصيدة المنفى والمهجر والمغترب مع محيطها الجديد، بالقدر الكافي الطارد للعزلة الثقافية والخوف من الآخر والإحباطات التي عاناها كثير من شعراء تلك البيئات التي لم تفلح في دمج بعضهم بإيقاع ثقافاتها، فقد ظل خطاب بعضهم غوغائياً وعاطفياً ومتخلفاً لا ينصاع لأعراف المعرفة وينضح تخلفاً وتعصبا لا سيما في الخلافات والنقاشات الدونكيشوتية التي يخوضونها دائما وبشكل هستيري، فضلا عن غياب المشغّل والمؤثر البيئي الشعري الجديد في شعرهم الذي لم يجد لديهم معداً هاضمة تتمثل ولا تجتر، فغالبهم يجهل لغة مغتربه وشعرائه وسياقاته الثقافية، مستثنياً أمثلة ممتازة لشعراء ومثقفين من الشباب خاصة يتفاعلون ثقافياً مع هذا المحيط، وتقدم قراءاتهم وتجاربهم إضافات مهمة للقصيدة العربية الحديثة.
لكن التنوع – رغم ذلك – حاصل ومؤثر بفعل قوانين التراكم الكمي والتحول النوعي التالي له. كما أن الحرية التي تتيحها الحداثة لمتبنيها تسمح باستيعاب المكان وتمثل مفرداته والتعبير عنه ولو بدرجات متفاوتة وكيفيات مختلفة.
كما ترد هنا عوامل الثقافة البصرية المتاحة وتعدد طرائقها كمؤثر في التكوين الذاتي والإعداد الثقافي للشعراء.
ولا نعني بالثقافة البصرية هنا الاندهاش بالمرئيات العيانية، بل تمثل المكان كوجود جمالي وليس التعاطف معه، إذ قد يكون المكان معاديا أو مفردة في عناصر رفض التعايش مع المكان الجديد، أي المنفى.
وهنا تحضرنا لتمثيل حالة شعراء كتبوا في مدن وأماكن معينة ما يمكن تسميته: أهاجي تنفر القارئ من وجودها – أي المدن وتظهر له طبقات جيولوجياها الجمالية المختفية في تاريخها، كقصائد لوركا وأدونيس والبياتي في نيويورك مثلا، وتجارب الشعراء العراقيين الشباب المغتربين في هولندا الذين صدرت قصائدهم بعنوان: ضوء المتاهة، هذا الصيف، ولفت انتباه القراء والنقاد الهولنديين شدة ذعر هؤلاء الشباب من المكان والغربة اللغوية التي يحملها في ثناياه.
وقد انتبه إدوارد سعيد إلى هذه المسألة واعترف بمعاناته من المكان الجديد على مستويات كثيرة: تتعلق بالهوية والوجود والثقافة واللغة لتصل إلى ما يسميه: حالة طباقية لها أعمق الأثر في تفكيره وعيشه داخل هذا المكان وخارج مكانه هو.
أما الخوف من التهام السياسي والحدث اليومي للقصيدة بهيكلها الفني وخصائصها النوعية، فهو ممكن التبدد إذا ما تأملنا تجارب كثير من شعراء الحداثة المنضوين تحت قضايا كبرى أفلتوا من المباشرة والخطابية بحكم إخلاصهم للفن الشعري أولاً، وبحثهم في أدبية الأدب نفسها لا التعبير عن مضامين ومعانْ كلّية أو شعارات يومية، بكلمات أخرى فقد نجا شعراء مهمون من السياسة وتداعيات الإلتزام بمقولاتها، عبر الاعتقاد الحر بالقضية دون أطر جمعية تحولهم إلى جوقات أو فرق غنائية تؤدي بصوت واحد.
وهذه الخصوصية هي التي تحفظ أو تحرر الشاعر وقصيدته من الحدثي واليومي والشعاري. وهذا ما آلت إليه حالة محمود درويش الذي نعده أول من تنبه إلى هذه المسألة وأخرجها من إطار المعادلة البسيطة التي أرادها منظرو الأدب المسيّسون، واعتبر درويش الوجود النصي هو ساحة كفاحه التي أثمر جهده فيها ثمرات ذوقية وفكرية عربيا وعالميا لم ينجزها شعراء القصيدة السياسية بالمعنى الشعاري المباشر.
ولقد أتاح التحاور مع الأشكال وحرية الاقتراض النوعي بين الفنون استكمال التحرر من الملفوظات المباشرة فتنوعت اللوحة الشعرية العربية بتنوع الرؤى والمواقف من الحداثة ومتطلباتها ومدياتها وافاقها الممكنة، ولذلك لم تعد من حاجة للذرى والقامات أو الهامات والإمارات والألقاب.
إضافة إلى أن تشخيص حالة واحدة ووحيدة في المشهد الشعري الراهن تصادر الجدل المعرفي حول الشعر وجوانبه التداولية والفنية ومسألة الأجيال والصراع داخل القصيدة ذاتها وتياراتها ومناخاتها ولغتها وعلاقتها بالأجناس الأخرى كالرواية والسينما والمسرح والتشكيل. لكننا من واقع ديناميكية الجسم الشعري العربي وتفاعله وحيويته نستمد بعض مظاهر وظواهر تلك الكفاحية التي تعاند الإحباط والتراجع فنسمي بعض ما يوصف بالمزايا أو علامات وجود و كينونة تطورية مثلاً، فنشير إلى استقرار المقترحات التحديثية ممثّلةً بقصيدة النثر وتنوع مناخات كتابتها المتغذية من السرد المستضاف لا بعناصره المؤسسة في الأنواع السردية المألوفة بل بإغناء الشعري بتعينات وتحيينات وتشخيص واسترسال وإمكانات الوجود السردي المعضّد للقصيدة والمخفف من كمية الشعر فيها، والمقصى للإفراط الغنائي والهيجانات اللغوية والصورية وأدوات البلاغة التقليدية، وصولاً إلى السيرة الذاتية الشعرية ، والقصيدة المشهدية، والدرامية، والحواريات والقصائد الطويلة، والنصوص غير المجنسة وغيرها من مقترحات شعرية ذات كيفيات وهيئات تباعد الشعري التقليدي لصالح الأشكال المحورة والمعدّلة مع بروز بعض المقترحات الشكلية الصرف أو المغايرة دون مستند جمالي أو نصّي، وبعضها تراجعي يحاول المصالحة بين جماليات شكلية منقرضة أو قديمة وحداثات متوهَّمة أو ملصَقة إلصاقاً وهذا أمر متوقع في البحث عن طرق جديدة كلما ضاقت السبل بالقصيدة وعانت من التكرار والآجترار والتماثل أو التناسخ الصوتي.
بل بلغ هاجس البحث والتجريب حدّ العودة إلى الغنائية بمسمّيات وأوصاف جديدة كالدرامية الغنائية أو الغنائية المتعيّنة أو المتجسّدة في أطر إيروتيكية وغزلية تعيد إنعاش الغرض الشعري المهجور – الغزل – لصالح غنائيات جسدية أو عاطفية. وذلك يفسًّر تدافع صدور الدواوين الغنائية والغزلية والجسدية التي تتماثل أحياناً ويثقلها الابتذال العاطفي والخيالات الشبقية والصور الشعبوية التي تعيد صياغة النزاريات الإنشائية بحذلقات حداثية الظاهر ولكنها تتملق الكبت والحرمان وتتناول الجسد بسطحية ونفاق أسلوبي يضمن شريحة من القراء ليست هي بكل الأحوال مجسات الحداثة والتطوير الأسلوبي.
ولكن الشرعية النقدية المفتقدة للنتاج الحداثي بتفاصيله ومفرداته رغم الاستمداد المنهجي من الغرب وثوراته النقدية دفعت إلى البحث عن ولادات مصطنعة أو قيصرية متشبهة أحياناً بالسياسي ومباركاته للظواهر بالبيانات والمؤتمرات – آخرها مؤتمر قصيدة النثر ببيروت، – فيما تفتقد المكتبة الشعرية المحاور الجمالية – النقدية و المزيد من المقاربات الغائبة والتنظير النصي مما يؤشر فقدان المستند النقدي المناسب وهو يؤشر كذلك غياب عنصر نمو مهم للمشهد الشعري رغم تنوع المقاربات النقدية وهروبها أحياناً إلى أنشطة موازية كالنقد الثقافي والنسوي والتاريخاني والعناية بالهوامش المقصاة كالشباب من شعراء الحداثة و حتى على مستوى الأجناس والأنواع الأدبية كالرواية التي برز بصددها المقترح المطالب بأن تتسيد الزمن بديلا لهيمنة الشعر الطويلة وتصدره لوحة الثقافة العربية.
وكذلك هدم المركز الشعري الغنائي والمراكز الموضوعاتية المهيمنة كمعالجات شعرية مأثورة، ونبذ المراكز الجغرافية الكبرى أحياناً لصالح الأقاصي التي لم تنتج شعريات لافتة. لقد ظلت قصيدة النثر العراقية واللبنانية متسيدة المشهد الشعري فضلاً عن شعر الشباب الذي – أيضاً بمباركات رسمية ومؤسساتية – برز إلى الصدارة كرهان مستقبلي يفك الارتباط بالمنجز المتوارث حداثياً ويقوم بتبديل المرجعيات والمؤثرات المعرفية والشعرية.
ولا نذذهب بعيدا إذا ما توقعنا انتعاش شعر المسرح أو المسرح الشعري وأدب الطفل.
لا أدري إذا كنت بهذه الإستقصاءات والحدوس والتوقعات قد أوضحت جوانب من الهمّ المثار غالبا بدوافع نقدية وقراءات ترصد ما يصيب القصيدة أحيانا من تكرار واجترار، وضعف تفاعلها مع المؤثرات المتاحة والممكنة لا سيما على صعيد التثاقف مع الشعر العالمي نصوصا ونظريات ونقدا وجماليات، دون أن ننسى أن هذا التفاعل مع القصيدة العالمية والفكر الجديد حول الشعر وصلته بالحياة والمجتمع وخصوصيته في التعبير عن ذلك كله، هو الذي قاد شعرنا منتصف الأربعينيات إلى طرق جديدة غيرت مسار الشعر العربي ووهبته إمكانات حياة معاصرة وأساليب حديثة، وأشرت إلى الاختلاط الأسلوبي و المفهومي في الكتابة الشعرية مما ينعكس بكيفيات مختلفة ليس كلها سلبياً على الجسم الشعري الحي.
فثمة من يرى ميزة وامتيازاً في التعايش بين الأجيال الشعرية العربية وهو ملمح بارز فيه ووجود الأجيال مع بعضها في اللحظة نفسها واستمرار الوزنية والموضوعاتية كأساليب أداء ممكنة إلى جانب التحديث الشعري المنفتح.
________________
*من موقع الدكتور حاتم الصكر

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *