إبراهيم الحكيمي
كنت ما أزال أعانِق لذة الوسادة، حين ارتعش كل بدني من أصوات الجماهير الغاضبة التي أخذت تتضاعف وتزيد حدّة في الساحة الكبيرة وسط البلدة..
وثبتُ وثبة المجزوع ورحت أعلّق رأسي في النافذة، لأرى الحشود تتدفق من كل الأزقّة، ومجموعة تمسك بالمكبرات، تحرّض الواقفين على الأرصفة للانضمام إلى هذه الانتفاضة الشعبية التي ستجبر الرئيس أن يُفرِج عن المواطنين الذين اعتقلتهم قواته البارحة بسبب أنشطتهم السياسية.
يحمل شابٌ في مقدمة الحشود رجلٌ طويل القامة، مهذّب الشكل، مطوّق بربطة عنق فاخرة، أمسك بمكبر الصوت حين وضعه على المنصة، وأخذ يصرخ بحماس.
– ما صَمَتَ شعب على الظلم والجبروت إلا زاد وتنامى، وما أذعن مسلوبُ الحقّ إلا شجّع بذلك السالِب على المزيد من السَلْب.. والجميع يعلَم أن ما جرى البارحة ظلمًا، إذ كيف تتقبّض الشرطة التي يجب عليها أن تتكفل بحماية الجميع على مواطنين لم يسببوا بأنشطتهم أذىً لأحد، بل يشغلهم همّ المجتمع، يجتهدون بعلمهم وممارساتهم ليقدمون اقتراحات ورؤى للسلطة فتستفيد منها في سبيل تحسين سُبل العيش وتوفير ما يسد حاجة الإنسان من الرغبة بالتعلّم والتطوّر والازدهار الحضاري.. أوليس لنا حقّ الحياة، كبقية الشعوب؟
– نعم.. نعم.. نعم.. ليسقط الظلم ويسقط الجبابرة.. هتفت الجماهير وقد أخذ بها الحماس مأخذًا كبيرًا.. فأردف الرجل وقد تحمّس هو الآخر بعد أن رأى العرق يتصبب من وجوه الناس إثر تفاعلهم:
– كيف إذًا سننال هذه الحقوق؟ ونحن كلما عمِلنا لنحقق تلك الغاية، أُخِذنا بما نعمل، وأُسِرنا، وليس ذلك فقط، بل يَطال أهالينا أيضًا بعض السوء بسببنا، كي نكون عبرة لآخرين غيرنا، فتَتِم مضايقتهم وربما قتلهم إن قاوموا.. ومن يسمع لنا شكوى إن شكونا بعدئذٍ.. كلكم سمع بعائلة “سامح” سامح ذاك الطالب الذي حقق المرتبة الأولى في كلية الهندسة في العام المنصرم، ووجدت جثته مرمية في أحد النفايات أمام منزله.. وشاع الخبر بأنه حادث عابر.. ألم يتم أخذه من قِبِل فرقة مجهولة قبل الحادثة بأسبوع؟ وتمّ تحذيره من متابعة أنشطته العلمية التي وصفوها “بـ مُهدِّدة للأمن القومي”! وبعدها بوقت قصير، وجد جُثّةً بدون روح! ما معنى ذلك بحق الله..!
وأخذ الرجل يرفع صوته ومعه تزداد ملامح الناس حِدّة وتفور الدماء في عروقهم.. فانفجروا بصرخة دوّى صداها بكل زاوية في كل بيت..
وعاد الشاب ليحمل الرجل، ومضت خلفه الحشود تزأر كالسباع منددة بظلم الرئيس وحاشيته المتجبرين.. فتبيّن لي من خلال كلام الرجل في المكبّر أنهم متوجهين إلى قصر الرئيس الذي يجتمع فيه الآن بالوزراء..
خرجت أسابق أنفاس الصبح، ردائي على كتفي، أحذيتي بيدي.. زوجتي تصرخ:
– لم تتناول فطورك بعد.. !
– حتى أعود.. الحقّ ينتفض.. رددت دون أن تتوقف خطاي المتلهّفة لِلّحاق بركب الانتفاضة.
أمام أسوار القصر، المئات من الحَرس المدجّج بالسلاح، لا أثر للخوف بالجوار.. الجماهير تزحف، الحرس يتوجس، كلٌ يَلوي سبّابته على الزناد.. بدت انفجارات الطلقات والقنابل الصوتية خافتة أمام الهتاف الذي كان مكبوتًا لدهر في صدور هؤلاء، وأخيرًا وجد الفرصة ليندفع بحرية، أَنظُر في وجوه من حولي.. محمَرّة، نارية.. أَبحَث عن الرجل الذي كان يقودهم.. لا أراه.. أين ذهب؟
تصرخ الأبواق.. تخرج حراسة الرئيس، هذا حدث ليس له سبق، ويبدو أن الرئيس قد خرج ليطفِئ مشاعله..يصمت الجمهور، يُقبِل موكب مهيب من الحرس والمصفحات، يخرج سكرتير الرئيس، يعود الصراخ من جديد.. ترتفع لافتات المطالب، “نريد تحرير أبنائنا” .. “نريد السلام”
تهمّ الجموع بالتقدّم، تقهقرهم القنابل، تجندلهم الشظايا، ترتوي الأرض بالدماء.. يخرج عشرات الجنود من خلف الأسوار، يضربون ويعتقلون.. تشتّتَتْ الجموع، كلٌ يبحث لنفسه عن ملجأ.. الموت كان يُحلّق فوق رؤسهم كما تحلّق النسور على الذبيحة.. نُسيِت القضية التي جاءوا من أجلها، حين طرأت قضية الحفاظ على أرواحهم في تلك اللحظة..
كُنتُ قد تسلّقت تمثالا كبيرًا للحرية في منتصف الساحة، وأعمى بصيرتي المشهد من الأعلى، فذهب لُبّي وبقيت كالأبله لا أدري ما أصنع.. طلقة أعادت لي رشدي، رأيت الدّم يسيل من كفّي الأيمن.. تدافعت بجسدي نزولًا، تلقّفني جنديان لم أرَ منهما شيئًا سوى العيون التي كان يبرق منها الشرر..
صرختُ فيهم، والدي أحد وزراء الرئيس، أيها الحثالة.. ستنالون منه عقابكم..
حدّق بي الجنديان، وألقيا بي بعنف إلى جوف شاحنة عفِنة.
ظللَتُ أطرق الشاحنة وأصرخ، افتحوا يا قَتَلة!
هل تعرفون من أبي؟
لقد وجدت نفسي للمرة الأولى أجهَر باسم أبي وأرتجي به ملاذًا..!
قلت في نفسي، يبقى أبي مهما كان سيئًا، لن يُنجيني إلا هو..
افتحوا يا قَتَله! أنا ابن خالد الوزير!!
حين وصلنا، تم تفتيشنا من قِبل أحِد الحَرَس، وأخذ يُذِلّ ويُهين السجناء، امتدت يداه إلى جيبي بعد صفعتين سددهما إلى رأسي.. فتح المحفظة، أخرج البطاقة:
– سعيد……. غير معقول! ماذا تفعل هنا؟ كيف تخرج ضد أبيك؟
لقد ارتبك الرجل، لعله تخيّل ماذا يمكن أن يطاله من أبي إن علِم بفعلته.
دار حولي، وفكّ الوثاق، وتعهّد بي إلى أحدهم ليوصلني إلى مكتب الوزير، في حين أخذ هو يواصل مهمة إذلال وتفتيش من تبقى من السجناء ونقلهم إلى سجون سرّية، تحت الأرض.
في الرواق إلى مكتب الوزير، حركة غير عادية واستنفار.
– غير مسموح دخول هذا الطابق! صرخ رئيس الحَرَس.. وأردف: مازال السادة الوزراء في الداخل مع الرئيس.
– هذا ابن السيد ……. الوزير.. تعرف أباه، ماذا إن حدث له شيء! وأباه سيعلم بذلك، وسيعلم أنه كان معنا.. يستحسن أن تُدخله.
يا لنفاق هؤلاء، كنت على وشك الموت بين أيديهم بلا هوية، وحين عرفوا بطش أبي صارت حياتي مهمة فجأة..
تزحزح الحراس، ودلفت إلى رواق الجناح الذي عُقِدَ فيه الاجتماع، حاملًا كل هواجسي معي، رأيت هناك صورة الوزير خالد تتلوّن وتتقلّب حين رآني بهيأتي تِلك، وآلاف الأسئلة تلتهم الفراغ لتلفح وجهي.. جثوت أمامهم وعشرات الحرس يطوقونهم جميعًا..
كل الفاسدين كانوا بتلك الغرفة، ولم أُصَدِّق نفسي حين رأيتُ الرجل الذي كان يحمله ذاك الشاب وأنا في نافذة منزلي، أيضًا بينهم.. ماذا يفعل هذا هنا؟ وكيف يُحرِّض عليهم ويجتمع بهم؟
رجال الدِّين الذين يسُبّون السلطة ليل نهار في مساجد البلدة، ويُصدِرون الفتاوى بتجريمهم.. ماذا يفعلون هنا؟ يا إلهي! هل أنا مُغمى عليّ الآن وأهذي؟ هذا ما قلته لنفسي حين عجِزت عن تفسير ما يجري..
يتهامسون في الجانب الآخر من القاعة.. يُقبل جندي ضخم.. يسحبني، وأجد نفسي أمام عُصبة الجبابرة.. وأسمع والدي يقول:
– هذا الولد الدنيء، لم يتعلّم مني شيئًا، نصحته، وهاهو يخرج اليوم ضد من؟ ضد أبيه!!
– بارك الله فيك يا…. يجب أن تكون قوي القلب والعزيمة، ولا تجرك العواطف في فعل الصواب.. هذا الولد جنى على نفسه بفعله! وكلنا يعلم معزّة الولد، لكن هذا ليس منك في شيء، بارك الله فيك، فمهما أنزلت عليه من عقوبة فكأنما تنزلها على بغيٍ يحبّ تعميم الخراب والقلقلة بين العامة، فلا يترك فسحة للسلطة -حفظهم الله وبارك فيهم- كي يهتموا بتحسين شؤون الخلق والعِباد.
وأخذت أرتجف وأنا أسمع أحد الشيوخ يردد هذه الكلمات ويمسح ذقنه الطويل ويُلاقي حاجبيه راسمًا ملامح الجِديّة..
المهرِبون، المعارضون، السياسيون، وتجار الحروب، المتصارعون جميعًا في أرض الواقع، كلّهم هنا مجتمعون، في غرفة واحدة، لا يفصلهم شيء.. أَطرُق رأسي، لعلّي أفيق ولا أفعل.. إنه واقع..
وفي سكرتي هذه، أسمعهم جميعًا يتشاورون في أمري..
– كيف يُسمح له بالدخول؟!
– كيف نأمنه الآن وقد رأى جمعنا، وغدًا يخرج ليكتب عنّا في الصحف والجرائد، وتخرج ثورة أكبر من هذه؟
– لقد صنع هذا الولد الكثير من العوائق وهو في شكٍ من أمرنا، فكيف يفعل وهو في يقين الآن أننا في الحقيقة عُصبة..؟
لقد كان القوم مرعوبون.. إنهم جميعًا واحد، يمثّلون لينهبون عَرَق المواطن المسكين.. لقد أخفتُهم.. أخافهم قلمي وأخافتهم كلمتي وها هم يقضون في أمري..
وأرى أبي صامتًا، لا تفسير لملامحه.. وفجأة صرخ:
– إنه ولدي.. ولن يمسّه أحد غيري!
لقد شعرت بالفخر وأنا أسمع قوله هذا، وعرفت كيف يكون الأب سندًا…
غرقت القاعة في صمت حذِر، وتقدم والدي ليرفعني من ياقتي.. مشينا جنبًا إلى جنب، وربّت بقوة على كتِفي وقال:
– لم تفعل هذا؟ عنيد كأمك الحمقاء!
كنت أريد أن أخبره حينها أني لن أفعل شيئًا بعد الآن، رغبت أن أحُدّثه كم أنا مُرْهَق ، وكم أشعرني وجوده بالاطمئنان قبل قليل حين همّ الجميع بتمزيقي، حتى أولئك الذين وقفتُ أهتف وراءهم والذين لم أفوّت خطبة لهم يبينون للناس فيها مفاسد السُلطان وبذاءة النفاق والخيانة.. لقد كنت أعمى.. لدرجة أني لم أرى نفاقهم والزيف…
أردت أن أُخبره، أني من الممكن أن أرحل، ولن أتسبب لهم بأي مشكلة بعد اليوم.. لكنه سبقني، وهوى بيده على رأسي لأفقد التوازن وأقع على ظهري..
لم أُصدّق، حين رأيتُ مسدسه الذهبي مُصوّب إلى رأسي ولا شيء في ملامحه ينبئ أنه سيتراجع عن قراره.. لقد حاولت أن لا أنظر إلى وجهه، ولكني نظرت، لأرى بعض إنسان، ولم أجد سوى كتلة طمع.. من الممكن أن تبيع أي شيء لأجل المصلحة الذاتية، حتى أفلاذ أكبادها..
أطلق الرصاصة.. قُتِلتُ، وقُتِلت معي آخر أفكاري..