فضاءات الدهشة

يهتم بالكتابة المدهشة..رئيس التحرير أحمد الفلاحي

أخبار ثقافية

عبد الجبار نعمان يترجّل بكبريائه الأخير

صدام الزيدي

 

كان أسبوعًا يمنيًا (مؤسفًا خيمت غيومه السوداء في أفقيةٍ للشارع الثقافي والفني) مكلومًا بنبأ مغادرة الفنان التشكيلي الكبير “عبد الجبار نعمان” الحياة، يوم السبت الموافق 26 يناير/ كانون الثاني 2019، في أحد مستشفيات صنعاء، بعد رحلة فنية مضيئة امتدت خمسة عقود، بينما تداعى الوسط الثقافي والفني اليمني لكتابة منشورات تودع واحد من أهم رواد الحركة التشكيلية في البلاد، ولسان حالهم: “وداعًا عبد الجبار نعمان، إنه زمن رحيل الكبار”.

في صنعاء المزدحمة بألوان عبثية، غادر لون يماني شامخ إلى حياةٍ أخرى. أو بصيغة أخرى: “نهشه المرض حتى نال منه”.

كانت الصورة لمشهد حمل نعش الراحل الكبير عبد الجبار نعمان (أحد رواد الحركة التشكيلية اليمنية) مؤسفة وقاهرة؛ إذ حُمِل جثمانه من قبل تسعة شُبّان (أو نحو ذلك) إلى مرقده الأخير، في غياب المؤسسة الثقافية الرسمية والنخب المثقفة، بينما تحضر الحرب في تفاصيل كل شيء وتدلف عامها الخامس بعد أيام وقد نكّلت بكل ملمح جميل في البلاد المبعثرة في أقاصي الغياب.

ترك رائد الفن التشكيلي في اليمن عبد الجبار نعمان (1949- 2019) عشرات اللوحات التي أغنت التراث الفني في البلاد، وقد كان لتنقله بين عددٍ من اتجاهات المدرسة التقليدية للفن التشكيلي الأثر البارز فيها؛ ولإن كانت بداياته في الاتجاه الواقعي التقليدي، إلا أنه مر عبر الرومانسية وصولًا إلى الاتجاه التعبيري.

بأسف ونبرة حزن بالغة، كتب وزير الثقافة اليمني السابق خالد الرويشان: “عبد الجبار نعمان.. وداعًا، وآأسفاه على البلاد! أيها العالم.. بلادنا تموت بين أيدينا وأمام أعيننا.
مَن سينقذ هذه البلاد من جنون التاريخ البائد العائد؟! نعيش مهرجانًا كبيرًا لموتٍ جماعيٍ بلا إعلان.. نعيش أكبر مذبحة في تاريخ هذه البلاد لأروع ما أنجبت وأنبتت من أبنائها الرائعين. ما زلت واجمًا منذ البارحة من هول خبر رحيله.. يموتون وحيدين غرباء في بلادهم ووحدهم مجانين الغبار يصولون ويجولون.. رحل فتى تعز وفنان اليمن الأول لكن بيارقه ما تزال ترفرف في قلوب الملايين”. وما كتبه “الرويشان” هو نبرة حزن خالصة ودمعة أسى مكلومة في وداع فنان كبير عاش أيامه الأخيرة يصارع المرض في مستشفيات البلاد بينما الساسة يتصارعون والحرب تتهيأ لعامٍ خامس، والمبدعون والفنانون يتساقطون بصمت وكل شيء ليس على ما يرام.

أما علي المقري (الشاعر والروائي المعروف) فقد ودع فقيد الحركة التشكيلية اليمنية بقوله: “بقي الفنان القدير عبد الجبار نعمان يرسم اليمن وناسه، طوال حياته، بألوان زاهية وفاتنة. وللأسف يرحل الآن واللون الكئيب يسيطر على كل أجواء اليمن. لروحك السلام والطمأنينة”. فيما يرى الفنان التشكيلي “طلال النجار” أنه: “برحيل الفنان عبد الجبار نعمان تكون اليمن قد ودعت آخر فنان من الجيل اﻷول، رواد ومؤسسي الفن التشكيلي اليمني المعاصر وهم: هاشم علي، فؤاد الفتيح، وعبد الجبار نعمان”.

في بيان خجول تأخر عن موعده (كما هو الحال دومًا)، نعت وزارة الثقافة اليمنية الفنان التشكيلي الكبير عبد الجبار نعمان،
وقالت الوزارة: “رحل الفنان البهي عبد الجبار نعمان الذي لطالما حضرت اليمن في أعماله زاهية مشرقة وجميلة غنية بالألوان والتفاصيل.. لقد حضر الناس والقرى والحياة في أعمال الراحل الكبير في أبهى صورة كما يراها بعين القلب وكما يحب أن تكون.. فقد كان الراحل ابن لحظة الأمل الكبرى، وكانت أولى لوحاته لجمال عبد الناصر وافتتح الزعيم عبدالله السلال أول معرض تشكيلي له”.

الشاعر عبد المجيد التركي، اكتفى بنشر صورة لمراسم حمل جسد الفنان الكبير عبد الجبار نعمان إلى مثواه الأخير، ومعلقًا بفداحة لاحدود لها: “تسعة شبان فقط يحملون جنازتك ويمشون تحت نعشك كما لو أنهم يمشون تحت سحابة متخمة بالضوء والماء.. تسعةٌ ربما أنهم غاوون مسحورون بريشتك وألوانك التي تجمل كل هذا الخراب”.

وأضاف التركي: “عبدالجبار نعمان.. أيها الفنان الذي يتجلى له كل شيء، فيجسده بريشته الخالدة: كيف استطعت أن تموت هكذا خلسة، هل كنت تنوي أن تخفي عنا خبر رحيلك؟ ماذا لو كنت قاطع طريق، أو زعيم مقاومة أو رئيس عصابة، أو رجل دين يتاجر بأركان الإسلام.. كم سيمشي في جنازتك حينها؟”.

وموجوعًا، ختم عبد المجيد التركي بكائية فيسبوكية: “ها هم يمشون مستعجلين، مثلما كانوا يستعجلون رؤية قوس قزح قبل أن يتوقف المطر. وها أنت ذاهب لتلوين أحلام الموتى.. بل نحن الموتى، نحن الموتى”.

ســــــيرة:
عبد الجبار نعمان من مواليد 1949م في بلدة “ذبحان” بمديرية “الشمايتين” في محافظة تعز، درس جزءًا من المرحلة الإبتدائية في مدينة تعز، ثم انتقل إلى عدن فأكمل فيها دراسته حتى المرحلة الثانوية، ثم سافر إلى القاهرة بأمر من الرئيس المصري جمال عبد الناصر والتحق بمعهد الفنون الإيطالية ليحصل على درجة البكالوريوس بامتياز مع مرتبة الشرف عام 1973م.
أقام أول معرض تشكيلي له في مدينه صنعاء، افتتحه الرئيس عبد الله السلال وكان ضمن لوحات هذا المعرض لوحة للرئيس جمال عبد الناصر، وبسبب هذه اللوحة حصل صاحب الترجمة على منحة إلى القاهرة لدراسة الفن التشكيلي، وبعد عودته إلى مدينة صنعاء أقام معرضًا، ثم توالت بعد ذلك إسهاماته في مجال الفن التشكيلي.
مثل اليمن في عدد من المعارض الدولية والعربية، وعمل مشرفًا ومشاركًا في كثير من الأسابيع الثقافية اليمنية في عدد من الدول العربية والأجنبية، وأقام العديد من المعارض في عدد من الدول العربية، وفي روسيا، وبلغاريا، وألمانيا، وبريطانيا، ويوجد عدد من لوحاته لدى أشخاص ومؤسسات في كل من هولندا، بريطانيا، الولايات المتحدة الأمريكية، ألمانيا، كندا، اليابان، ودول الخليج العربي، ومن أهم أعماله “لوحة جدارية” اقتنتها الأمم المتحدة عن الحرب والسلام، وعدد من اللوحات الجدارية لدى عدد من الجهات الرسمية في اليمن.
حصل “نعمان” على عدد من الجوائز والأوسمة، منها: جائزة اللوحة الذهبية، وشهادة استحقاق من منظمة اليونيسيف ووسام مأرب من الدرجة الثانية وكرمته وزارة الثقافة عام 2006م. كما عمل رئيسًا للجنة التحكيم الخاصة بجائزة رئيس الجمهورية في مجال الفن التشكيلي لمدة ستة أعوام.
غيبه الموت في أحد مستشفيات صنعاء نهار السبت 26 يناير/ كانون الثاني 2019.

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *