فضاءات الدهشة:
أفردت مجلة “نزوى” الثقافية العمانية، في عددها الجديد 102 (أبريل/ نيسان 2020)، ملفاً عن “الثقافة والإبداع في اليمن”، وما ينجزه المشهد الثقافي الإبداعي هناك في سنوات الحرب التي بلغت عامها السادس..
صدر العدد 102 إلكترونياً بصيغة PDF في ظروف استثنائية بسبب جائحة وباء “كورونا”، وهي المرة الأولى التي تعلن فيها هيئة التحرير الصدور الإلكتروني وتوقف الصدور الورقي، مؤقتا، في مشوارها الممتد لأكثر من ربع قرن من الزمان.
وفقا لرئيس تحرير “نزوى” الشاعر سيف الرحبي: “يأتي الملف اليمني في سياقه الابداعي والمنطقي وجراحات تلك البلاد (بلادنا الأولى)، ومآسيها التي هي بحاجة إلى أكثر من ملف وإلياذة وملحمة”.
يمتد ملف اليمن على 44 صفحة، يتصدره غلاف هو عبارة عن صورة فوتوغرافية لـ “حصن نهاض” الذي يقف شامخا بأعالي جبال المحويت (شمال غرب صنعاء) ويبدو من الوهلة الأولى مهجوراً لكن ثمة أناس يقيمون به ويتخذونه سُكنى لهم، في التقاطة فوتوغرافية من أرشيف العام 1992 للفنان عبد الرحمن الغابري، لكنها تحاكي زمن اليوم، حيث “الإبداع في بيت مهجور بعد أن أكلت الحرب كل مظاهر الحياة اليمنية”، كما أن عدة لوحات من التشكيل والفوتوغراف وفن الغرافيتي اليمني رافقت مواد الملف، لنخبة من أهم الفنانين: آمنة النصيري؛ عبد الرحمن الغابري؛ مراد سبيع؛ ألطاف حمدي؛ زكي اليافعي.
مبادرات ثقافية..
حمل الملف عنوان “الثقافة والإبداع في اليمن.. يوميات الانكسار الكبير” وهو من إعداد وتقديم الشاعر والصحافي صدام الزيدي، الذي افتتح الملف مستعرضا إضاءات من المشهد الإبداعي ومبادرات تنعش الفعل الثقافي في اليمن برغم الحرب وإشارة أيضا إلى إشراقات الثقافة اليمنية في الداخل وفي المهجر على السواء.
وتواترت مقالات الملف، إذ يكتب كل من: الباحث بمركز الدراسات والبحوث اليمني، قادري أحمد حيدر، تحت عنوان “ثلاثية المثقف اليمني”؛ الكاتب والمفكر (وعميد الصحفيين اليمنيين) عبد الباري طاهر، عن “اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين”؛ محمد عبد الوهاب الشيباني: “إنتاج صيغ أخرى للهامش”؛ عبد الحميد الحسامي: “المبدع اليمني وسيرة المعاناة”؛ صلاح الأصبحي: “شعر الشباب في اليمن”؛ عبد الحكيم باقيس: “الرواية اليمنية في زمن الحرب”؛ آمنة النصيري: “التشكيل اليمني: الجيل الشاب بين قساوة الحرب ورهانات الإبداع”؛ حميد عُقبي: “المسرح والسينما.. الواقع والتطلعات”؛ أحمد الأغبري: “التراث الثقافي.. الصورة القاتمة للحرب”؛ وجدي الأهدل: “ورش إبداعية تحت القصف”؛ عبد الله علي الزلب: “في ثقافة القات في اليمن”، ويختتم الملف بتقرير للشاعر والكاتب بلال قايد عمر بعنوان “المجلات الثقافية اليمنية ودورها المعرفي”.
تشظّت البلاد/ اتسعت المقابر….
تشير افتتاحية الملف إلى أنه على مدى خمس سنوات، انقسمت البلاد واتسعت المقابر وكبر الأنين واتشحت الجدران بصور الضحايا بينما تنامى خطاب الكراهية وأصبح غول الطائفية والسلالية والعنصرية يمشي في الشوارع والأسواق ويطل برأسه من على المنابر وفي الأروقة والدهاليز، في بلدٍ كان اختار الديمقراطية خيارا لتجاوز محمولات إرثه القديم، يوم التأم اليمن (شماله وجنوبه) صبيحة 22 مايو/ آيار 1990؛ الوحدة التي تمضي الآن إلى مآلات مربكة في مشهد معقد وأكثر سوداوية وانفلاتاً….
وتؤكد الافتتاحية أن قيم الجمال والفن والابداع تظل “هي البدء وإن انكسرت أمام الموت المتجول بين دروب اليمن شرقا وغربا وشمالا وجنوبا”؛ فمن لم يمت هناك في مواجهة قتال شرسة، يموت في لحظة قهر وسط طابور طويل للماء والزيت والدقيق ومتاهات الفاقة التي لا نهاية لعتمتها وضراوتها…
المثقف والوحدة والحرب…
في مقاربة مهمة لثلاثية “المثقف والوحدة والحرب في اليمن”، يرى الكاتب والباحث قادري أحمد حيدر، في مقالة بعنوان “ثلاثية المثقف اليمني”، أن “جدلية العلاقة بين المثقف والوحدة في اليمن، تراجعت، لصالح الحرب، والقوى التي تقف خلفها”، لكنه ينوه أن هذه الجدلية الثلاثية لا تزال قائمة، وهي التي تحكم وتتحكم بعلاقة المثقف، بالوحدة، والحرب.
ووفقا لقادري حيدر: لقد كان الحدث الوحدوي الكبير في مايو/ آيار من العام 1990م، أكبر من الجميع ومن كل الذين تصدوا له، ولم تستطع كل “القامات” التي وقفت بموازاته أن تكون في مستوى القيمة الوطنية التاريخية العظيمة الذي مثله أو كانه الحدث ولا يزال. محذراً من أن “أخطر المقاتل التي تصيب فكر المثقف بالموت، وعقله بالثبات والجمود هو حين يتوجه عقل المفكر أو المثقف نحو مسألة السلطة بالعمل على إبدالها بالمعنى المباشر”. وختاما يتمنى حيدر “أن يقلع المثقف اليمني عن عادته القديمة في اختصار الصراع حول معنى التغيير الاجتماعي، في بعد السلطة أو الهم السياسي السلطوي”، الذي يقودنا جميعاً، ساسة ومثقفين، إلى تكريس خيار الحرب، على الحلول السلمية والثقافية.
اتحاد الأدباء والكتاب: مآل بائس!
من ناحيته، يكتب عبد الباري طاهر، الكاتب والمفكر المعروف ورئيس تحرير مجلة “الحكمة” الأسبق
عن “مآلات اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين”، والتي وصفها بـ”المآلات البائسة”، متحدثا عن دور الاتحاد ونضالاته وإسهاماته في الذهاب إلى الوحدة اليمنية، لكن الاتحاد في السنوات الأخيرة بهت دوره إن لم يكن خفت تماما. ويستعرض عبد الباري طاهر ملمحا مهمّا من مسيرة الاتحاد وما أحدثته مجلة “الحكمة” (أسسها الأستاذ أحمد عبد الوهاب الوريث، في صنعاء، سنة 1938، وأعاد الأستاذ عمر الجاوي إصدارها باسم اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين، في عدن، سنة 1971)، من حراك إبداعي وثقافة وحدوية مبكرة.
ويذكّر طاهر بأنه: “عندما شكلت لجان التوحيد، واللجنة الدستورية أصبح عديد الأدباء والمثقفين أعضاء في هذه اللجان، ووقفوا ضد الانتهاكات القامعة للحريات العامة والديمقراطية في النطاق العربي والعالمي، ونقد مواقف اتحاد الأدباء والكتاب العرب في بعض القضايا، وبالأخص الموقف من الوحدة اليمنية، وعدم الاعتراف في البداية بالاتحاد اليمني، وساند الاتحاد قضايا الحرية والديمقراطية، وكفاح الشعوب والأمة العربية، وبالأخص القضية الفلسطينية، كما دافع أعضاؤه عن الأدباء والكتاب والمثقفين بعامة”.
وفي إشارته إلى “الحكمة” المجلة التي صدرت في العام 1971 أي قبل تأسيس اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين بثلاثة أعوام، قال إنها “مثلت المدماك الأساس للاتحاد، وأوضحت افتتاحيتها طبيعة النهج الفكري والإبداعي الذي سار عليه اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين”.
ويسرد عبد الباري طاهر إشراقات المجلة الثقافية والأدبية اليمنية في بواكيرها: “الحكمة” 1971؛ “الكلمة” 1971″؛ “الإكليل”؛ 1980؛ “اليمن الجديد” 1971؛ “الثقافة الجديدة”، إضافةً إلى مجلات أخرى، كما برزت الملاحق الثقافية في بعض الصحف اليمنية. موضحا أن الحرب (على مدى خمس سنوات) طالت الحياة السياسية والأدبية ومختلف جوانب الحياة اليمنية، وكان نصيب الاتحاد الأدبي، والمنظمات الجماهيرية والإبداعية، والحريات العامة، وحرية الرأي والتعبير والإبداع، النصيب الأوفى. وختم طاهر بالقول إن اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين، هو أحد الآباء الروحيين للوحدة اليمنية، لكنه “يتعرض الآن لما يتعرض له الوطن -كل الوطن- من تفكيك ومعاناة، لكن الحياة أقوى من الموت، والسلام أبقى من الحرب؛ فالحرب -رغم قسوتها- لا تستطيع إبادة الشعب، أو إخماد إبداعه؛ فهناك المئات والآلاف (اليوم) يضيئون في الظلام، ويبدعون ألواناً أكثر جِدة وحداثة تتحدى الموت، وتقهر الحرب”. وهذا ما يراهن عليه عبد الباري طاهر.
الحرب وإنتاج الهامش!
إلى ذلك، يأسف الشاعر والكاتب محمد عبد الوهاب الشيباني، في مقالة له بعنوان “إنتاج صيغ أخرى للهامش!”، أنه بعد أعوام خمسة (من الحرب) صارت البندقية هي التي تتقدم في اليمن؛ البلد المنكوب بفعل الصراع الذي يُخَاض بأدواتٍ شتّى، والذي “عانى طويلاً من كونه هامشاً قصياً في ثنائية المركز والأطراف بتعيينها الثقافي، وحاول مبدعوه خلال نصف قرن الفكاك منها بإحداث بعض الخروقات (هنا وهناك) في جدرانه الصلبة، لكن، ها هي الحرب، تعيد التعريف بهم وببلدهم من موقع الهامش بصيغ هتكية لبلد فقير ومنسيّ”. وعن حالة الانكسار الثقافي، يرى الشيباني أن المثقفين اليمنيين أنفسهم بدؤوا بالتحوصل داخل هوياتهم الأضيق “السياسية والمناطقية والطائفية” حين لم يجدوا مؤسسات الثقافة التي ينتمون إليها قادرةً على حمايتهم والتعبير عن استقلاليتهم، وقبل هذا إذابة أحاسيسهم بالتمايز داخلها، فصاروا مع الوقت عنواناً لانقسام المجتمع، بدلاً عن وحدته وتماسكه، بل وصاروا عنواناً لمتاريس المتحاربين في كل الجبهات، لأنهم ببساطة لم يستطيعوا تشكيلَ صوتٍ نابذٍ للحرب ومجرِّمٍ لها، بسبب الضغوط الشديدة عليهم، وبسبب هشاشة تكويناتهم الفكرية، أيضا…
الإبداع ونوافذ التواصل…
يفتتح الناقد والأكاديمي عبد الحميد الحسامي، أولى قراءات المحور النقدي المكرس لمقاربة الإبداع اليمني، في اللحظة الراهنة، متتبعاً “أثر مواقع التواصل على التجربة الإبداعية اليمنية” في مقالة بعنوان “المبدع اليمني وسيرة المعاناة”.
يشير الحسامي إلى أن قدر المثقف اليمني أن ينحت حياته في الصخر، وأن يبني منجزه الإبداعي في أزمنة الجدب، دون مؤسسات، ولا تحفيز، ولا مظاهر حياة. يكتب النص الشعري في اللحظة التي يبحث فيها عن الرغيف والماء وقنينة الغاز وإيجار المنزل. ومع كل تلك المعاناة، يتمرد المبدع اليمني على المُعوّقات، وينطلق من بين رماد الحرائق فينيقًا لا يعرف الهزيمة، ولا يعترف بالموت. ويؤكد الحسامي أنه بات لمواقع التواصل الاجتماعي أثرها العميق في التجربة الإبداعية عمومًا، والتجربة الشعرية على وجه الخصوص؛ فالإعلام الجديد يشكل متغيرًا مهمّا في اللحظة الراهنة، وقد أخذ يفرض حضوره في مجالات الحياة المختلفة، كما أخذت سلطته تمتد وتتسع بازدياد أنماطه ومساحة حاجة المجتمع إليه. وفي السياق ذاته ينوّه الناقد الحسامي أن مواقع التواصل مكنت المبدع -الذي كان يعيش في الهامش- من الحضور والتفاعل، لكنها في الوقت نفسه أسهمت في تسطيح تجارب إبداعية كثيرة، وجنت جناية كبيرة على خصوصية المبدع، وعلى مستوى التجربة، فأخذ ينصت للخارج أكثر من إنصاته لصوته الخاص.
الشعراء الشباب..
متناولاً “شعر الشباب في اليمن”، ينوِّه الناقد صلاح الأصبحي بأن التجربة الشعرية الشبابية اليمنية تزامنت مع متغيرات جمة ومتسارعة في الوعي والتفكير والواقع فصبغتها بلونها، وفرضت وجودها بإلحاح واقتدار على تمثّل متطلبات النص الجديد ومآلاته وخصوصياته الحداثية البحتة وانطلاقاته العابرة للسكون والجمود الفكري والإبداعي ونشاط خيالاته المشعّة وتشظّي صوره وتركيباته واتكائه على الدفقات الشعورية واحتضانه للسرد والحوار. وهذه المحاكاة (وفقا للأصبحي) وصَمَت النص الشعري المنتمي إلى هذه التجربة بالمراوغة والقلق والجرأة الهائلة والتحدي المجازف في إثبات ذاته وتشكيل هوية إبداعية متجاوزة للنمط المألوف لشعر أسلافهم.
ويرى الأصبحي أن الشعراء الشباب تمكنوا بمحاولتهم الحثيثة من ترسيخ وجودهم الشعري، مختتما قراءته بالقول “إن شعر الشباب في اليمن يشقّ طريقه في التجربة الشعرية العربية، متجاوزاً كل الهزائم والخيبات التي تحاول إقعاده وتجميد حركته وإلغاء وجوده.
كما يشير الأصبحي إلى مخاضات ثلاثة متباينة ومتناوبة على كتابة الأشكال الشعرية الثلاثة لدى جيل الشعراء الشباب: العمودي والتفعيلة وقصيدة النثر؛ الأول: برز وترعرع في مطلع الألفية واستطاع الثبات والظهور بجدارة وموهبة. الثاني: لمع اسمه مع اندلاع ثورة فبراير/ شباط 2011، رغم محاولته قبل ذلك. الثالث: يافع ومستحدث برز بعد ثورة فبراير.
الرواية اليمنية.. إشراقات برغم الحرب
تحت عنوان “الرواية اليمنية في زمن الحرب”، يكتب الناقد والأكاديمي (ورئيس نادي السرد- عدن) عبد الحكيم باقيس، عن منجز الرواية اليمنية في خمس سنوات من الحرب والدمار. لكن باقيس يشير إلى بروز المفارقة بين الواقع والرواية، وهي أن الرواية في اليمن قد شهدت في الخمس السنوات العجاف تطورًا كبيرًا على المستويين الكمّي والنوعي، ما يجعلها خمس سنوات خصبة في الكتابة، وقد يربو المنشور من الروايات فيها على الخمسين رواية. وذلك (وفقا لباقيس) مؤشر كمّي مهمّ قياسًا بإيقاع النشر ومعدلاته في السنوات الماضية، كما أن العديد من هذه الأعمال قد اشتغلت على التقنيات والأساليب السردية، وذلك ما يشكل التطور النوعي في الكتابة الروائية اليمنية التي توشك قريبًا أن تطوي قرنا من الزمان على صدور أول رواية يمنية في 1927.
وتتناول قراءة باقيس بالإشارة، أسماء روائية عديدة منوها إلى عملين مهمّين صدرا مؤخرًا: “بلاد القائد” لعلي المقري، و”فاكهة للغربان” لأحمد زين، إضافة إلى روايات صدرت في الآونة الأخيرة: “أرض المؤامرات السعيدة” لوجدي الأهدل، و”حفيد سندباد” لحبيب سروري، و”حصن الزيدي” للغربي عمران، و”سوق علي محسن” لنادية الكوكباني، و”أبو صهيب العزي” لوليد دماج، و”ثورة مهيوب” للمياء الإرياني، و”نزهة عائلية” لبسام شمس الدين.
التشكيل اليمني..
تكتب الأكاديمية والفنانة التشكيلية آمنة النصيري، عن “التشكيل اليمني” كظاهرة إبداعية مشتبكة مع حركة المجتمع، مسلطة الضوء على التجارب التشكيلية الشابة. وهنا تؤكد النصيري أن “المحترف اليمني في ظل الواقع الراهن لا يكفّ عن تكثيف إنتاجاته لإيجاد فضاء متنامٍ للفن، كما يمعن في إدانة الحرب، وينتصر للحياة والسلام والإنسانية”.
وأوضحت آمنة النصيري أنه منذ تسعينات القرن الماضي إلى وقتنا الحاضر وُجدت أسماء فنية بأعداد لافتة في المحترف التشكيلي اليمني، وذلك نتيجة تخرّج دفعات شابة من كلية الفنون والمعاهد وأقسام التربية الفنية (المُنشَأة حديثاً في الجامعات اليمنية)، ومن وسط هذه الكثافة العددية المتنامية ظهر فنانون شباب كثر، اجتهدوا في تطوير محترفاتهم، وكافحوا في سبيل تأكيد حضور الفن وخلق هامش محدود يقدمون فيه نصوصهم، ضمن إطار ضيق من حضور نخبوي وأجواء شبه مغلقة.
وقالت النصيري إن تجربة جيل الفنانين الشباب قد صاحبتها الكثير من الصعوبات والتعثر أحياناً والصراع مع قِيَم الراهن التي هي عبارة عن أخلاط من وسائلَ وبُنًى وشبكات علائقية ضمن منظومات تسودها الفوضى والتداعي على كافة الأصعدة، اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً، بالإضافة إلى إرث معرفي جمعي يسوده الارتباك والتراجع ومحدودية فهم معنى الفن وجهل بحيوية دور الفنان، مما أدى من ناحية إلى تحجيم العلاقة التفاعلية بين الفنان ومحيطه، وبالتالي بين النص الفني والمتلقي، مما ساعد على تعميق البوْن بين الفنان والجمهور وغربة التشكيلي وقطيعته عن عالمه قطيعة فنية معرفية، فبرزت إشكالات بديهية ومنطقية إذا ما تمّ دراستها في إطار المؤثرات الموضوعية التي تحاصر الفن والفنانين، ومنها أن الذائقة الجمعية النابعة من ثقافة الجمهور مارست بطريقة غير مباشرة سلطتها على اتجاهات التجارب الشابة، إذ حفزتهم بشكلٍ ما على إنتاج ما يطلق عليه بالفن الجماهيري مع الحفاظ على إيجابية المعنى، حيث لا نشير إلى المنتج الفني الشعبوي حرفيا، ولكن المقصد هو في تقييد الفنان بشروط معينة لإنجاز عمل فني يستدعي الواقعي والتقليدي.
بلدٌ بلا سينما!
عن “المسرح والسينما في اليمن.. الواقع والتطلعات”، يكتب المخرج السينمائي اليمني المقيم في فرنسا، حميد عُقبي، حول نشأة المسرح اليمني الحديث، قائلا إن عام 1910، شهد تكوين أول فريق يمني للتمثيل العربي في عدن من طلبة الحكومة وقد عُرِضت حينها مسرحية “يوليوس قيصر” للكاتب الإنجليزي شكسبير على مسرح صغير في ميدان التنس بكريتر، في عدن. وانتقد عُقبي وزارة الثقافة اليمنية، التي قال إنه “رغم وجود ما يسمّى المؤسسة اليمنية للسينما والمسرح إلا أنها لم تنتج أي فيلم”. معدداً أسماء تُذكر مقرونة بالسينما اليمنية أهمها بدر الحرسي، خديجة السلامي، حميد عقبي، فضل العلفي، عمرو جمال، يوسف هبة، سارة إسحاق، سفيان أبو لحم ومريم الذبحاني وعدد من خريجي الكليات ومعاهد الفنون بعضهم أنجز بعض الأفلام القصيرة.
وعن السينما اليمنية “الحلم الذي لم يولد بعدُ”، ينوّه عُقبي أنه بعدد الأصابع سنجد بعض الأفلام اليمنية المتاحة للمشاهدة على يوتيوب. موضحا أن أغلب صنّاع الأفلام اليمنية يعتمدون على جهودهم الذاتية في الإنتاج ولم يحظَ إلى اليوم أي مشروع سينمائي يمني بدعم إنتاجي من أيّةِ مؤسسة عربية أو دولية، ولهذا فإنّ المحاولات والتجارب تتعطل وهناك من توقفت أخباره تماما من أصحاب الأفكار السينمائية اليمنية.
“التراث الثقافي”..
يكتب الصحافي أحمد الأغبري تقريرا بعنوان “التراث الثقافي.. الصورة القاتمة للحرب”، ونقرأ في السياق أن اليمن في تاريخه المعاصر شهد عدداً من الحروب؛ وللأسف كانت المواقع الأثرية والمعالم التاريخية في معظمها عُرضةً للاستهداف؛ وهي المخاطر التي ازدادت مع وجود تلك المعالم في مناطق الصراع. ويورد الأغبري بالأرقام إحصائيات مرعبة عن خسائر التراث الثقافي اليمني بسبب الحروب، لكنه يشير إلى أنه “مهما كانت الخسائر التي ألحقتها الحروب السابقة في المعالم التاريخية فهي لا تُقارن بما ألحقته الحرب المستعرة منذ مارس/ آذار 2015، إذ ألحقتْ أضرارًا بالغة بمواقع التراث، وبالتالي كان التراث الثقافي في أرجاء اليمن جزءاً من مسرح الحرب أو متضررا غير مباشر منها، كما أن استهدافه بغارات “طيران التحالف” جعل خسائره كارثية”.
وختم الأغبري بالقول إن التراثُ الثقافي في اليمن ينزف، والعالم لا يأبه لخسائر هذه الحرب الملعونة في بلدٍ يُعدّ من أهم المراكز الحضارية القديمة في العالم!
ورش إبداعية..
الروائي وجدي الأهدل له تجربة رائعة في التدريب ضمن ورش إبداعية أقيمت في صنعاء كانت البديل لغياب المؤسسة الثقافية الرسمية، عندما نجحت مبادرات ثقافية في تنفيذها وسط حالة من شتات المشهد الثقافي في كل المدن اليمنية.
يكتب الأهدل عن هذه التجربة تحت عنوان “ورش إبداعية تحت القصف”، وفي السياق، أوضح وجدي أنه “ليست مصادفة أن معظم النتاج الأدبي للورش الكتابية يدور حول الحرب ومآسيها، فهذا الجيل الغضّ الذي أزهر للتوّ عصفت به رياح حرب دموية ضارية، ولم تُتح له الفرصة ليتنفس هواءً نقياً من رائحة البارود”.
وعن معاناة الأدباء الذين جاء بعضهم من أصقاع بعيدة، وكان عليهم المرور بنقاط تفتيش ووضع محفوف بحالة تشنج على الأرض بين الأطراف المتصارعة، يتابع وجدي: “إنه لنصر عظيم أن تجتاز هذه الأرواح الشابة الحواجز المذهبية والمناطقية والسلالية وتعلو فوقها، وتكتب أدباً إنسانياً يسمو إلى المُثُل الأخلاقية العليا”. موضحاً أن ما كتبه شباب الورش من قصص وإبداعات (صدرت في ثلاثة كتب)، عكس كراهيتهم للحرب والدمار، وتطلعهم إلى حياة مُكلّلة بالسلام في وطن يعمّه الرخاء والازدهار.
في ثقافة القات…
في مقاربة بعنوان “في ثقافة القات في اليمن”، يشير الباحث في علم الاجتماع والإعلام، عبد الله علي الزلب، إلى أن مجالس القات، في شكلها الراهن وفي غياب فضاءات ثقافية وفنية أساسية، أصبحت بديلا مفروضا للمراكز الثقافية والمؤسسات التربوية والفضاءات التنشيطية والترفيهية وفضاء تواصل واتصال لا غنى عنه بين الأفراد والجماعات.
وفي مقالته، يعني الباحث بـ”ثقافة القات” المعاني التي تضفيها الثقافة اليمنية على استعمال القات، أي الأفكار والتصورات والمعتقدات المصاحبة للسلوك، وهذه المعاني هي في الواقع حصيلة تجربة تاريخية متكاملة عرفها المجتمع وليست وليدة محدثات راهنة. كما أن السلوك “القاتي” له امتداد تاريخي أي أنه سلوك يحقق درجة من التواصل الزمني كونه سلوكا موجها من قبل تصورات ومعتقدات ومواقف تكسبه صفة العادة وتدمجه داخل نظم التصورات الحياتية الشاملة فهو إذن سلوك مؤطر اجتماعياً وليس سلوكاً فردياً.
المجلات الثقافية..
في تقرير بعنوان “المجلات الثقافية اليمنية ودورها المعرفي” يكتب الشاعر بلال قايد عمر عن مسيرة المجلة الثقافية اليمنية، مستعرضا أسماء أهم المجلات الثقافية والأدبية، ومناقشا أسباب تعثرها، ومشيرا إلى مجلات ثقافية معظمها تصدر بصيغة PDF باتت ترى النور في الآونة الأخيرة منطلقة من منصات التواصل الاجتماعي. ويخلص التقرير إلى أن “التكنولوجيا، فتحت طرقا جديدة للتواصل مع المجلات الثقافية وهو ما أثر إيجابا على معرفة وقراءة التجارب اليمنية فظهرت أسماء لم يسمع بها الوسط الأدبي ولم يتحقق ذلك إلا بفضل التكنولوجيا لأنها أنهت الشللية وقضت على مشكلة البريد العادي وطورت من تجارب البعض بحكم الاطلاع على تجارب نظرائهم في البلدان الأخرى”.