آمنة النصيري بين الرؤية والفن والإبداع

قادري أحمد حيدر*

 

في أحايين كثيرة يكون من الصعب الكتابة عن بعض أجناس الإبداع (الفنون): الموسيقى، والفن التشكيلي، حيث تدخل معه الكتابة دائرة الصعب، إن لم أقل المستحيل. والأصعب منه أن تكتب عن فنانة إشكالية، ومبدعة أصيلة الغور والحضور في الوجدان الإنساني، مثل المبدعة التشكيلية د. آمنة النصيري. وتصبح الكتابة أكثر تعقيداً وصعوبة حين تأتي الكتابة من كاتب يتحرك ويشتغل اختصاصياً بعيداً عن فضاء الفن التشكيلي، كمعطى إبداعي مباشر.

فقد سبق أن اقتحمتُ الكتابة عن وحول الفنان التشكيلي في مرات قليلة، على أنني لم أشعر بصعوبة واستحالة الكتابة كما هي معي في هذه السطور، التي لا أراها أكثر من تحية مودة، ومحبة، وتقدير لذاكرة الروح والفن، والإبداع، عند ولدى الفنانة والإنسانة المبدعة آمنة، تحية تأخرت أكثر مما يجب لشعور داخلي عال بالمسؤولية الأدبية تجاه الكتابة وتجاه الفنانة العزيزة… وحين طلبت مني القناة الفضائية (B.B.C) الحديث عن المبدعة الفنانة، آمنة النصيري، تهيبت الموقف، وشعرت بقيمة وجلال الكتابة الفنية عن النص البصري، ومع وعن إنسانة تقع في مكان التقدير العالي في نفسي، وفي وجدان قطاع واسع من المثقفين والمبدعين، وجدت معها نفسي واقعاً في قمة حماقة ارتكاب جناية الكتابة عن الفنانة وفنها، دون عدة، وبدون أدوات وأساليب وطرائق الدخول إلى فنها…، ولذلك هي جناية المحب، والمريد، كما يقول المتصوفة. وهي كتابة -كما هي بين ايديكم- لم تستطع أن تفي الفنانة والمبدعة الكبيرة حقها الذي تستحقه.

أسمت الفنانة والناقدة التشكيلية والصديقة العزيزة د. آمنة النصيري مرسمها الخاص بـ”كون”، وهو جزء متصل بسكنها الخاص، -أو بالأصح كان كذلك إلى قبل جائحة الحرب الجارية-تعبير عن حميمية العلاقة، ومحاولة لدمج الذات الفنية والإنسانية بالمكان، وبالفن (كون) في حركة اتصالهما ببعضهما في صيرورة لا تنقطع ولا تتوقف.
قلت عن الفنانة آمنة عبر الأثير الفضائي (B.B.C) –من سنتين- إنها فنانة تبحث عن الإنسان في الكائنات، في الوجود، في تفاصيل الحياة الصغيرة والكبيرة، تبحث عن الإنسان في الفكرة، في الصورة… تبحث عن الإنسان كمعنى، في الفن، وفي المجتمع، وهي بذلك تبحث عن الشيء الأصيل في الكون (كونها)، تبحث عن نفسها، وتؤصل وجودها في الذاتي الفني، انطلاقاً من أشياء الحياة، والوجود المحتشدة حولها، وتضيق عليها مساحة المكان. فالمكان هو الكون “كونها” الذاتي العريق، متحفها الفني الذي صار جزءاً منها.
مع المبدعة د. آمنة النصيري، تشعر أن الكون، والعالم، إمرأة، وأن في ما تقوله وتصوره إبداعياً (فنياً، وتصويرياً، وجمالياً)، تحدياً لمحاولة تنميط الحياة، وعولمة الذكورة، وجعل الحياة أكثر بطريركية (أبوية)، ومن هنا محاولاتها الفنية الفلسفية، والتصويرية لتأنيث الكون أو بالأصح محاولاتها خلق معادلة فنية، جمالية إنسانية، يتحقق فيها معنى المواطنة في الفن، والحرية في الوجود، عبر تلك الحشود الصورية البصرية للمرأة التي تملأ مساحات اللوحة، -لوحاتها- بالوجه، والجسد الأنثوي، وهي محاولات فنية لجعل الكون، والحياة أكثر بساطة، واستقامة، وأكثر توازنا.
فالعلاقة بين المرأة والرجل، في لوحاتها ليست حدية، ولا ضدية، تناقضية، استبعادية، بل علاقة حوارية، تكاملية، تفاعلية إبداعية إنسانية.
فالدراسة الفلسفية الجمالية التي تعلمتها من أساتذتها، تعلمها اليوم لطلابها في قاعات الدرس الأكاديمي.

-2-
إن الأشياء في الفن وفي الحياة لا تستوي إلا بالقبول بالآخر، والاعتراف بحقه في الوجود كما يريده هو.. وأن الجميل والقبيح (الحسن، والقبيح)، كما في مفاهيم علم الكلام الإسلامي لدى المعتزلة، أمران متلازمان ومتحدان في الكتابة، وفي الفن، وفي الحياة، وأن محاولة قسمة العالم إلى فسطاطين (خير/شر، كفر/إيمان) هو المدخل العملي لكل الشرور، وأساس كل عنف، واستبداد، وعبودية. فالفن عموماً لا يكون إلا حراً، وحرية، ومواطنة، وكرامة إنسانية، وهو ما تدربنا عليه وما تعلمنا إياه لوحات الفنانة الأصيلة، والصديقة النبيلة والوفية، د. آمنة النصيري. “ولأن الفن –حسب تعبير د. جابر عصفور نقلاً عن د. طه حسين- أثر من آثار الأحرار لا من آثار العبيد”؛ ولذلك فالفن حرية وانتماء خالد لفكرة الحرية.
يقولون، في البدء كان الكلمة، وأقول مع د. آمنة في البدء كانت المرأة كان الجمال ، كانت اللوحة الخلاقة… أقصد بدء التاريخ الحي والفاعل للإنسان في الوجود وفي الحياة، وهو بدء التعددية في التاريخ العالمي والإنساني كله، وليس بدء التاريخ كيفما اتفق، لأننا معها سنجد أنفسنا في العصر الحجري، أو الجليدي، أو قبل لحظة تشكل “الكون” الذي بمرسم د. آمنة في صورة تحولات النص البصري فيه، الذي استقر عليه الحال في “كونها” الفني الجميل، الذي يحتوي جميع الألوان، ويجسدها في لوحات بصرية قل نظيرها في التصوير التشكيلي والفني الجمالي، الذي بحاجة إلى ناقد فني اختصاصي ليفك رموزها وألغازها، وإشاراتها،وإيحاءاتها، وتأويلاتها، الفنية والجمالية الإبداعية. إن أجمل ما في لوحاتها –وهي كثيرة- هو الأنوثة الفنية الجمالية الإنسانية الخلاقة، الناضجة والمكتملة في صورة ما يحتويه “كونها”، أو مرسمها.
إن علاقتها الحميمة بوالدتها المثقفة بالفطرة، التي توقرها وتضعها في مكانة سامية في نفسها، قد لعب دوراً مؤثراً وتأسيساً في تكوينها وتشكيل وجدانها الحياتي، والإنساني، منذ طفولتها. فالأم عندها أصل الأشياء، ومبتدأ الكون، ومكنون الوجود كله يتمظهر فيها، ومن هنا حضور فكرة المرأة في لوحاتها، المرأة المتحدية والمقاومة للعنف السائد. فالأم مدرسة وحياة، وكون متسع بلا حدود لمن لا يعلم.

من قرية نائية في محافظة البيضاء (رداع)، المحتشدة بالسلاح، والمدججة بالعنف، والثأر، والفوضى، واللاعقلانية الاجتماعية، جاءت آمنة إلى الحياة، وإلى الفن والإبداع، ومن هنا، لك أن تعلم معنى دور المرأة في التاريخ الخاص لآمنة. وندرك جيداً معنى دور الأم في حياتها، وهو كذلك ما يفسر سر تعلق آمنة بأمها، المثقفة بالفطرة، الأم الأمية البسيطة، على منوال النبي “الأمي”، ولكن دون وحي من السماوات العلا. وتلك ميزة إضافية للمرأة، في صورة والدة د. آمنة.
للمكان في رسوم آمنة معنى خاص يجمع بين متناقضات الوجود والحياة، مكان مكتظ وممتلئ بالأشياء والناس… حتى وهو في قمة الفراغ الظاهري، مكان يجمع بين متناقضات واقعية، وأسطورية، وصوفية، كلاسيكية، وحداثية.. مكان، يجمع بين الشيء وضده، وتلكم هي الحياة الخالدة في الفن. إنها في أعمالها الفنية تؤسطر المكان، والأشياء البسيطة والعادية، حتى المرأة في المكان تسعى لاسطرتها بعد إعادتها إلى نفسها وذاتها الأصلية، أو استعادتها لروحها المصادرة.

د. آمنة في لوحاتها جميعاً تمكنت من خلق حالة من التآلف، والصدام بين اللون، واللون، وبين الخطوط والمسافات ومساحات الجسد في توزيعاته على اللوحة، هو امتداد لتصادم الذات، والموضوع في حياة الفنانين والمبدعين الكبار، وخاصة مع الفنانة آمنة القادمة من إرث ولادة بيولوجية صعبة مستحيلة على الفن. ومع ذلك طوعت ذلك المستحيل، وكل شيء لأجل الفن والإبداع، في الصورة البصرية الفنية، كما تجسدها لوحاتها.. فنانة تستخدم جميع الألوان، وإن كان المفضل لديها، لا أقول هذا اللون أو ذاك، وإنما وضع اللون المناسب في المساحة المناسبة من المكان المناسب في اللوحة، أي دون السماح للون الواحد بالتحكم والسيطرة على مساحة اللوحة، حيث تبقي للخطوط، والظلال، والفراغ، مكاناً تشتغل عليه في اللوحة.

-3-
الفن التشكيلي مرتبط بالعين البصرية بقدر ما هو مرتبط بالرؤية الفلسفية، والإطار المعرفي والثقافي العام. فلدى آمنة النصيري ذاكرة بصرية (عينية) ثاقبة، جريئة، وحادة، جارحة وقت اللزوم، وهي تجمع بين الفن كإبداع ومشروع فني، وبين الفلسفة كرؤية تنظيرية لهذا الإبداع، ولإنتاجه في الوقت نفسه، رؤى، وإبداع يحتويان الآني، والتاريخي، كما أن اشتغالها بالتدريس الأكاديمي في مادتي علم الجمال، والفلسفة قد ساعداها على تشكيل تلك الرؤية الواضحة للفن، وذلك المنجز الإبداعي الفني الراقي. وهنا يظهر اهتمامها بالمفاهيم، والمعاني، والأفكار، والقيم الكلية الإنسانية التي تظهر وتتجلى في لوحاتها التشكيلية. وهو ما يفسر معنى ودلالة تسميتها لمرسمها الخاص بكلمة “كون”.

مرة أخبرني أحد الأصدقاء النقاد، الباحثين إلى أن اهتمامات د. آمنة النقدية والفلسفية (النظرية) أقوى حضوراً من رسمها، أو تشكيلها البصري. فقلت له على الفور.. قبل أن تكون آمنة ناقدة، وصاحبة خطاب نقدي فني، كانت موهبة أصيلة، وإبداع فطري، وتألق فني جمالي، في زمن عز فيه حضور العين البصرية..، خاصة وأننا نتكلم عن آمنة الآتية من ولادة طالعة من قلب منطقة قبلية، شديدة الاحتشاد بكل ما هو مضاد ومناهض للفن والإبداع، ناهيك عن الإبداع التشكيلي، آتية من مجتمع بطريركي إلى أقصى مدى ممكن أن تصوره الرواية السحرية الفنتازية… مجتمع يضع المرأة في أدنى مقام، ومع ذلك قاومت آمنة بالموهبة، وبالإبداع وليس بالخطاب. كل ذلك فرضت حضورها في قلب الفن التشكيلي اليمني المعاصر، إنها إرادة الفن في ذات آمنة، هي من قهرت تشاؤم الواقع، وإنحطاط الفكر في صورة العفن السائد. وبذلك وحده انتصرت آمنة الفنانة على عمى وعبثية القبيلة، وعلى ظلام الفكر المتخلف، انتصرت بسلاح البصيرة التصويرية الثائرة، وبجذوة الفرح في روحها، التي أيقظت واشعلت روح الفن في داخلها، إلى مدى لا يمكن تصوره إلا بعناق سقف الحرية الخالد.
ولذلك أقول إنه لا يمكننا قراءة واقع الحداثة في اليمن المعاصر، دون أن يكون الفن التشكيلي في قلب هذه القراءة، ودون أن تكون د. آمنة في صدارة هذا الإبداع الحداثي…،(فنا/وتنظيرا).

فكلما كانت المسافة بين الفن البصري (اللوحة)، وبين الخطاب التشكيلي كبيرة، تأكد للجميع أننا لا نقف على عتبة الفن، ولاكذلك على عتبة الحداثة المنشودة.

إن د. آمنة النصيري، الفنانة، والباحثة، والناقدة، مع قلة من زملائها التشكيليين هم عملياً من يساهموا في ردم الفجوة، أو الهوة، بين الرسم، أو الفن التشكيلي كموقف إبداعي بصري، وبين الرؤية البصرية كخطاب نقدي تنظيري. فآمنة الفنانة، والناقدة هي بحق أحد أهم رموز الخطاب النقدي التشكيلي في اليمن المعاصر وهي كذلك من أهمهم وأكثرهم حساسية، وفنية، وابتكاراً في الرسم التشكيلي. ويمكنني القول إن د. آمنة النصيري تؤسس مدرستها الذاتية الفنية الإبداعية الخاصة بها، مدرسة مفتوحة على جميع المدارس، والتيارات في الفن التشكيلي.

إن ميزة آمنة النصيري/ الفنانة أنيقة الروح أنها لاتعرف كيف تسوق نفسها، ولم تسع يوما لذلك كغاية، لأن موقفها الابداعي من رسالة الفن تتناقض مع ذلك السلوك النفعي.

وهذا في تقديري أمر جميل لان غايتها ورسالتها الابداعية سامية وانسانية المعنى والمبنى.. ترى أن الابداع الفني الجمالي البصري لوحة خالدة، تسوقها القيمة الفنية التي تحملها في داخلها، وهي من ستفرض نفسها، إن لم يكن اليوم ، ففي قادم الزمن، ذلكم هو الفن الخالد الذي لايقدر بثمن.

إن رائحة الفن الجميل تنتشر دون واسطة ودون استئذان. عطرها لكل الازمان

لك أيتها الفنانة والمبدعة والناقدة الرائعة، مبنى، ومعنى، كل التحية والمحبة، والمنى، في هذه السطور الفائضة عن حاجتك إليها، ولكنه لزوم ما لايلزم، كما قالها العرب القدماء.

_______________
* كاتب وباحث يمني

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى