فضاءات الدهشة

يهتم بالكتابة المدهشة..رئيس التحرير أحمد الفلاحي

قصة وسرد

فتاة المكتبة

مروان الشريفي

 

منذ فترة طويلة مضت كنت قد اعتدت الذهاب إلى المكتبة مبكرًا، حين أصل أتجه مباشرة إلى المكان المخصص للقراءة، هناك يوجد مكاني المعتاد شاغرًا، أحيي من سبقوني في المجيء قد يكون شخصًا أو شخصين في الغالب، بعدها أنزوي في مكاني متابعًا القراءة دون أن أعي ما يدور من حولي.

ذات صباح هادئ دخلت المكتبة كعادتي وبينما أنا في الدرج المؤدية إلى المكان، كنت قد سمعت ضحكات ناعمة، قطعت ما تبقى من المسافة على عجل، حين وصلت كانت هناك فتاتين ترتديان رداء أسود ولكنه مفتوحا، يمكنك ذلك من النظر إلى الهندام الذي يختبئ تحته، فقد جرت العادة مؤخرًا أن يكون ارتدائه كارتداء معطف طويل لا تغلق أزراره، حين جلست في مكاني كانت الفتاة التي أمامي قد وقفت لغرض ما، وفي تلك الثواني المعدودة لاحظت بأن لديها وجه أسمر، عينان واسعتان، جسمها متناسق كقصيدة جاهلية، ترتدي سروالا أزرق اللون، وبلوزة حمراء ، وتبرز خصلات من شعرها أقرب إلى اللون البني من تحت حجاب لفته حول رأسها بطريقة عصرية. غير إن ما شد انتباهي حقيقة هي طريقة جلوسها، فهي على كل حال لم تهتم لقدومي وتصلح من جلستها، الأمر الذي بدا غريبًا، فمن لباقة الأخلاق أن يعدل الإنسان جلسته ويبتسم عند قدوم شخص ما، فتحت الكتاب بعد ذلك، أبحث عن آخر ورقة توقفت عندها الليلة الماضية، وفي تلك اللحظة كانت الفتاة الأخرى تتمتم بكلام لم أفهمه جيدًا، ولكنني أدركت بأنه متعلق بطريقة جلوس صديقتها، فبمجرد أن أكملت الفتاة حديثها حتى كانت الفتاة السمراء قد أصلحت من جلستها وحبات من العرق تعتلي أنفها الجميل المقوس، عدت من جديد للبحث عن صورة لمدينة صنعاء القديمة كنت قد قصصتها من صحيفة إخبارية تتحدث عن حجم الاضرار التي ألحقتها الضربات الجوية للتحالف العربي على منازل متعددة في صنعاء القديمة، في ظل صمت غير مبرر من قبل منظمة اليونسكو، منذ ذلك الوقت وهي تتنقل من كتاب إلى آخر، أضعها عند آخر صفحة أتوقف عندها، حين وجدتها بدأت في القراءة:

(( صمت الأمير، ونظر إلى المستمعات.

قالت ألكسندرا وكأنها تخاطب نفسها:

– ليس في هذا الشيء من تصوف طبعًا!
واقترحت آديلائيد:

– والآن اقصص علينا كيف وقعت في الغرام!
فنظر إليها الأمير مدهوشًا؛ فقالت آديلائيد بنوع من التسرع:

– اسمع. يجب عليك أيضًا أن تحدثنا عن لوحة مدينة بال تلك؛ أما الآن فأريد أن أسمعك تقص علينا حكاية وقوعك في الغرام. لا تدافع عن نفسك، فلقد وقعت في الغرام. ثم إنك متى قصصت شيئًا، كففت عن أن تكون فيلسوفًا.))
توقفت عند كلام آديلائيد وعدت أسترق البصر إلى تلك الفتاة السمراء التي تقضم شفتيها بعنف، وتبرز من بينهما قطعة من العلكة بشكل كروي، وما أن تنفجر، حتى تلتصق بشفتها السفلى، ونظراتها النارية تضرم بمن تصادفها، عدت للتفكير مجددًا في كلام آديلائيد. من كانت تخاطب أن يحدثها كيف وقع في الغرام؟ أنا أم الأمير ميشكين في رواية الأبلة، ياا لله ما هذه المصادفة العجيبة. عادت تبتسم بدلال، ولكن لماذا تتحلى بكل هذا الكبرياء في موقف كهذا؟ أم أن طريقتها في إبراز جمالها مخالفة للقواعد المعروفة، تبًا لك. (هكذا قلت بصوت يكاد أن يسمع)..

عدت متابعًا القراءة ثانيةً من صفحة لم تكن تلك التي توقفت عندها وكان سببه إنني شعرت بكره لحظي شديد لهذه الفتاة المحتالة فعدت اقرأ ما فتح أمامي مباشرة

(( فأسرع الموظف يصيح قائلا:

– هو خرق للمقدسات طبعًا، خرق للمقدسات طبعًا!
– وهو يستحق النفي إلى سيبيريا، هه؟
– إلى سيبيريا، إلى سيبيريا رأسًا! ))
قلت. هي تستحق النفي إلى سيبيريا، تلك الشيطانة، المتغطرسة، التي تتباهى بجمالها على ضعفاء القلوب مثلي، ولكنني لن أعيرها أي اهتمام، فلتذهب إلى الجحيم، هي بلهاء على كل حال، تبدو كذلك، الجميع يأتي إلى هنا حاملين بين أيديهم كتبًا للقراءة، وها هي لا تحمل أي كتاب. حين تهادى صوتها إلى مسمعي، أنكرت عني كل ما قلته للتو في حقها. هي ملاك بالفعل، ولا بد أن أصل معها إلى نتيجة، الإنسان الذي يضيع فرص مع فتيات من هذا النوع لا يمكن أن نصفه بالعاقل، هو أبله بالفعل ولا أحد له الحق أن ينكر ذلك. وما أن تلاقت نظراتنا حتى ابتسمت إليها، مبدياً إعجابي بها، تمالكت نفسي أمام تجاهلها لوجودي، طبقة من العرق غطت ملامحي، أي مأزق هوت بي إليه هذه الشيطانية، كيف لو أنها لم تتقبل ما بدر مني للتو؟ سأكون في نظرها مجرد تافه يحمل رواية لكاتب عظيم.

أقسمت بالله إنني لن أعود للنظر ثانية، قلت في سري:

– بئسًا للريح التي جاءت بها برفقة الفتاة التي تستغرق في القراءة دون أن تدري ما يدور من حولها.
ولكنها هي الأخرى نظرت للمرة الأولى نحوي، كانت متواضعة الجمال، ابتسمت حين تلاقت نظراتنا، هي التي لا أريد أن تبادلني بشيء. طوت الكتاب الذي كان بيدها، حين وقفت شعرت بسعادة كبيرة، احتمال أن تغادر المكان لجلب شراب أو وجبة خفيفة كما يفعلن الأخريات، وخلال فترة غيابها سنتمكن من الحديث أخيرًا، فتلك التي أتهمها بالكبرياء قد تكون غارقة في الحياء، لا يمكنها أن تبادلني بشيء في وجود صديقتها. أخذت حقيبة اليد ذات اللون الأحمر، بينما الكتاب ظل في مكانه على الطاولة كما هي تعليمات إدارة المكتبة، عادت للمرة الثانية تنظر إليَّ ولكن هذه المرة بعطف، ذهلت من ذلك، ولبرهة ظلت تتحدث إلى صديقتها التي سيخلو لنا الجو للحديث معًا، حين أكملت كلامها تناولت يدها صديقتها، تملكتني الدهشة واعتراني الحزن، وأنا أشاهدها تقودها برفق بين المقاعد، متجهه بها نحو المصعد الذي لا يستعمل إلا لذوي الحالات الخاصة، غادرتا المكان، كان حزني أشد أن الفتاة السمراء ذات الجمال الفاتن لن تعلم بأن رجلا ظل جالسًا أمامها يتغزل بها متمنيًا أن تبادله بنصف ابتسامة.

 

_______________
* قاص وكاتب يمني.
– القصة من مجموعة “طابور سادس”.

 

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *