عبده الحيقي
هل جربت الاتكاء والاستلقاء في العراء وأبوبكر وليلة بدرية، كهذه؟
هل جرّبت أن تمد رجليك، في هذا المكان المفتوح على الليل والسماء والقمر والنجوم والجبال والمنازل البعيدة وكل الاحتمالات؟
هل جربت أن تقنع زوجتك بالخروج في هكذا ليلة شعبانية للفضفضة والتنفيس وفي هذه التبة بالذات، مثلي الآن؟، غير أنه لا توجد زوجة أو ما شابه.
قد يكثر الحديث عن الليل هنا، وما يكتب ليس للتشويق؛ بل لتوثيق تفاصيل الأيام ببدرها ومحاقها، لكن هذه الليلة مختلفة، ليلة فردوسية، بنسيمها وقمرها الذي اقترب بدره من الاكتمال، هذه الليلة قصيدة غزلية في كفِّ نجلاء شامية، أغنية زريابية في شفتي أميرة ثملة.
نادم أن هذه هي الليلة الأخيرة لي هنا، وهذا النسناس يسف وجهي الشاحب ويهفهف شعري الأصهب، الآن، بعد يوم ثقيل من العمل الشاق في نهار حار، واهتبال فرصة توقف المكينة عن الزمجرة، بعد أن أُصيب عاملها بوعكة مفاجأة.
بعد ليال سيؤول هذا البدر إلى مُحاق، سطوع وخفوت، وهكذا حياتنا بين سطوع وخفوت؛ إذا لم نحتفِ ببدرها، بسطوعها، سنتناهى معها إلى المُحاق، الخفوت.
“يابه شطلع اللكمة (الأكمة) افتهن قليل”، قلت لأبي، بعد أن همد صوت الماطور، “تمام.. باقي معك ماء؟!”، ردَّ، وهو يقطف قات.. ويستعد هو للسمرة في الأكمة المقابلة، حيث البناء، بعد أن تبللنا وتطيّنا ونحن نحاول رفع الماء وإيصاله إلى البناء.
ما أجمل هذا الهدوء الوديع، وسيّالات المشاعر تتجاوز الكتابة هنا، إلى الكتابة على جدار الروح، جدار الحس، جدار الوجد، الوجدان، بإمكانك أن تطلق يديك للهواء، للطيران، وروحك للارتقاء في هذا المعراج الطبيعي، للدروشة والتصوّف النقي، بإمكانك أن تعد النجوم، وأن تتلصص على عينيّ رفيقة، قد أتت، أو لم تأتِ بعد.
لماذا الليل بالذات؟
الليل ذاكرة الريف المختزنة بالكثير من الخوف والتوجس، والأقصوصات التي تتسلل من ثقوب النوافذ الطينية، فنلوذ بأحضان الأمهات خط الدفاع الأول والأخير.. ذاكرة الريف المختزنة بالمغامرات العاطفية والقبلية والدراماتيكية.
عن عاشقين، يصعدون للأسطح، قبل زمن (الذواكر)، وبعد أن يغيّر بطاريات المسجلة، يبلل خيط الشريط بلسانه، يضع على المشغل، السمه، الأب: “ياقلب تستاهل…”.
لم يكن “اللي بعيونه الطحين” إلا مونولوجًا نكمل ملامحه بخيالاتنا ونُخضَع به، فيبدو لنا وكأنه حيوان ذو قوائم طويلة وأذرع كذلك، ومصاب بالرمد، وبعد أن نفرك رؤوسنا، نتمنطق الجسارة، ونقرر عصيان أوامر الجدات، رجوت أن تومض لي بكشافها الطيب، قلت بعد خطوتين شجاعة، وأنا أنتقل بين بيتَي جدتَين لي، كلتيهما “نعْمة” الكبرى والصغرى؛ لنقل التُتَن (التمباك)، الذي ما زالتا تتبادلانه حتى اللحظة.
لم أستلقِ من قبل، كما فعلت البارحة، بعد أن تخليت عن كوني حارسًا، توسدت الأحجار، في هذا المكان تمامًا، نمتُ كطفلٍ بعد شغب وبكاء إثر (رفشة) بكف أُم.
نمت بطفولية تامة وانغماس مطلق في التراب وبين أشجار وأحجار، لم أصح إلّا على الصوت الأخير لأبي: (نوم الهناء يامالي).
* قاص وكاتب يمني