يحيى الشيخ
بالأمس ليلاً طٌرقتْ بابنا، راحت زوجتي تفتحه، صرخت مرعوبة:
“ذئب”!
أخذتْ ثيابها ولبست معطفها وهاجرت إلى مكان مجهول.
فتحتُ له الباب. كان ذئباً عجوزاً يبكي. أدخلته بعناء شديد، وقدمت له شرابا ً دموياً ولحم ضأن طازج. رفضها وكاد يتقيأ. أخذته الى حقل بجوارنا يغص بالخراف، علّه يشتهي واحداً، خاف منها ولاذ خلفي. واصل بكاءه وهو يتشنج ويمسح انفه بسروالي.
توسلت اليه أن يخبرني قصته. توقف عن البكاء ولم يتوقف عن النشيج، وقال بصوت مجروح:
“حبسني في القصيدة وخرج، خرجت وراءه، وتهت في الطريق”.
ما كاد يلفظ كلمته الاخيرة، حتى عاد ينحب ويولول. سألته:
“إهدأ رجاءً، من هو، الذي حبسك في القصيدة وخرج؟”
رد عليّ بحسرة عميقة:
“لا أعرفه”.
سألته:
“ألم تقرأ اسمه على القصيدة؟”
ردّ: “لا أعرف القراءة”.
طلبت منه أن يصفه. قال وهو يغمض عينيه:
“يعيش في عزلة، وكأنه سجين محكوم بالاعدام، يلبس نظارات سميكة، تساقط الشعر من مقدمة رأسه، يجني كلباً كسولا، يكتب، يحب البحر والقراصنة، يضحك على غفلة بصوت عال، ويشخر في نومه”.
عطفت عليه ودعوته أن يبقى معي، بعد ان هاجرت زوجتي وبقيت وحدي. ردّ عليّ بسرعة ونهض من مكانه وتوجه صوب الباب:
“لا، لا، أنا أحبه، لقد غيّر حياتي، غيّر طبيعتي. أشعر في قصيدته أني أرق من فراشة، وأخذت أقرض شعراً أجمل من شعره”.
ودّعني باطمئنان وتواضع جم، وهو ينحني لي في كل خطوة.
2
بعد حادثة الأمس، وصراخ زوجتي المرعب، أن ذئباً داهم بيتنا، وهروبها إلى مكان مجهول؛ خاف أهالي القرية وحزموا امرهم على مغادرة المكان والهجرة الى الأبد.
أسدلوا ستائرهم، وأطفأوا مصابيحهم، وأغلقوا أبوابهم بالمتاريس، ولم يبق غيري يشعل شمعة في الفضاء المهجور.
في أول الليل دُق الباب. نظرتُ من ثقبه السحري، لا أحد خلفه. فتحته متوجساً، وجدت الذئب يجثو ورأسه يتدلى من بين كتفيه الضامرين، كمن يهيؤنه على نطع، ومازال يبكي، يكرر نوتة قالها مئات المرات. بكلمات جافة سألته:
“نعم، ماذا وراءك؟”
أجابني بيقين عميق كأنه يقدم نشرة اخبار:
“طردني، ولا أعرف غيرك في هذا العالم”.
دلق رأسه، وأخذ يبكي، وسال مخاطه على صدره، وسقط على العتبة. بعضه تناثر على قدمي. قلت مستاءً:
“هيا أدخل”!
جثا رافعا صدره. جلست قبالته وجها لوجه على ركبتيي، وسألته:
“بالأمس، قلت لي أنه تبناك وأسكنك قصيدته. لماذا عدت لي؟”
ردّ عليّ منفعلاً:
“غصب مني لأني غادرت البيت، وكنت عندك ليلة البارحة”.
التفت صوب الباب ودنا بخطمه مني وأضاف:
“إنه يغار من الفنانين. مع أني اعتذرت منه، لكنه لم يصدق أني تهت في الطريق، وأنك قدمت لي العون والكرم. صرخ بوجهي واتهمني بالخيانة العظمى، واتهمك بسرقتي منه… والله… والله، قلت له الحقيقة، لكن غضبه الجنوني دفعه ينتف شعر رأسه، ولم يبق منه إلا خصلة متهدلة على جانبه الأيمن وكأنها ستارة سائبة مهملة. تصوّر! اتهمني بسرقة قصائده وتهريبها خارج الحدود. فتش فمي وآذنيي وذيلي و…”
اقترب مني وكتّ في أذني كلمتين. طأطأ رأسه وقد احّمرت وجنتاه. صرختُ:
“غير معقول… كيف يفعلها؟ كل هذا لأني استضفتك لساعات”
استدركت ظنوني وأضفت:
“هل تخفي عني شيئاً غير هذا؟”
لوى عنقه كمن يخنقه شيطان:
“بعد مغادرتي بيتكم، صادفني شاب وسيم في الطريق، سألني عن وجهتي، ومن يكون صاحبي. أبلغته اسمه، واتضح لي أنه من المعجبين بشعره، ويقتني دواوينه، ويحفظ له قصائد ويعرف عنه غرائب جمة. ظل يثرثر بها حتى غفوت ونمت في حضنه”
قاطعته وأنا مأخوذ بلغته الشعرية الجميلة:
“قلت لي بالأمس، أنك تجهل إسمه… لقد كذبت عليّ إذن!”
أسرع بالجواب:
“لا… لا… صدّقني! تذكرته صدفة. تذكرت جارته العجوز، وقفت مرة تحت شرفته، وصاحت عليه بالاسم وشتمته، وشتمت الشعراء كلهم.”
تعبتْ ركبتاي من الانثناء على الارض، فعدّلت جلستي، وبجفاء تام ابلغته:
“اسمع! أنا لا أطيق الكذب، وليس في نيتي خوض معارك مع الآخرين، خاصة الشعراء، ولست من قافلتهم، فلا ناقة لي فيها ولا جمل”.
حرّك أذنيه ورفع رأسه وهو يكرر مع نفسه:
“لا ناقة لي فيها ولا جمل”.
ما كانت هذه الملاطفة لتوقفني عن مواصلة كلامي:
“بسببك اتهمني شاعرك المبجل بالسرقة والسطو على ممتلكاته المادية، ويعني أنت، والمعنوية، ويعني شعره”.
كان يتلوى وكأن سياطاً حاذقة تصلي ظهره. لم أشعر برحمة عليه وواصلت:
– نشر الخبر على صفحات الجرائد، والانترنيت، وعرض اعلانات ضوئية في الساحات العامة تُظهر صورة كاركاتورية لي، هاربا وأنا أحمل أكياساً تتساقط منها قصائد وحيوانات وبحار وزوارق وكل ما كانت تنطوي عليه قصائده… هل يستحق عجوز كاذب، مثلك، كل هذا العناء والفضائح؟
ما كدتُ أكمل كلامي، حتى انفجر بالبكاء وهو يختض وينفض لعابه ومخاطه على الارض. سارعت لأنهي هذه المهزلة:
“اسمعني! كما لو أنك تسمعني لآخر مرة. عُدّ إلى غابتك! إلى وطنك الأم. خذ لنفسك أنثى وأنجب ذئاباً حرة. اختر لك مغارة في أعلى جبل، يمكنك منه أن ترى القمر وتعوي له، وهو يضيء أنيابك ناصعة البياض. اهرب! “.
قمت لأصب لي كاساً، فقد نشفت ريقي وأنا أدبج مستقبله، وواصلت كلامي:
“عشّ بعيداً عن الشعراء، فهم مرضى، يحشرون أصابعهم في كل ثقب ينالونه”.
والتفت اليه لأرى ردة فعله وأنا أذكر، جهاراً، ما فعله الشاعر به.
كان قد غادر البيت، وترك الباب موارباً، تسللت منها ريح تحمل زنوخة حيوان ونباح كلاب تطارد صيداً.
……………………….
* من مجموعة “ساعة الحائط” الصادرة عن “ورّاقون” البصرة 2015