وضع مشين

بسام شمس الدين

 

أفلت من صرامة التقاليد العسكرية طالب غريب الأطوار، دخل اسمه خلسة إلى سجل المقبولين للدراسة في الكلية الحربية بصنعاء، ولا يدري أحد كيف اجتاز التدريبات القاسية، وكيف قاومت روحه الفاترة فورة النشاط المتفاقمة في أجساد زملائه. لم يتعلم من دروس الكلية سوى كيف يرتدي بذلته غير المكوية التي يبدو أنه استردها من فك حيوان، وكيف يضع رتبته النجمة والطير على كتفيه، جاءنا بهذه الرتبة “مقدم” إلى إدارة التوجيه المعنوي كنائب للإدارة، وهو منصب خالٍ من الأهمية، لأننا كنا نسد معظم الأعمال الروتينية، وهكذا وجد نفسه فائضاً عن الحاجة، وهذا كان ملائماً لطبيعته الفاترة وروحه الخاملة، ولم يكن له شغل سوى الثرثرة والإدعاء بأنه بصدد تأليف كتب وأبحاث دينية تثبت أن القرآن هو كلام الله، وأن الرسول محمد آخر الأنبياء، وظل هذا الضابط المغرور مهموماً بذاته مبالغاً بتدينه، ومن حين لآخر يعرض مشاريعه الغبية على رواد مكتبة الإدارة، ولم يكن يعرف أنه يثير سخريتهم واشمئزازهم، وما كانوا يصغون له إلا من أجل رتبته وحسب، وحين أتى جلب معه كيساً بلاستيكياً يحوي ملابسه ومشطاً ومرآة، وقطعة صابون رخيصة وعطوراً شعبية يستخدمها الدراويش والمتصوفة، ووضعه أسفل إطار طاولته الأنيقة، ولهذا السبب فاحت من مكتب الإدارة رائحة غريبة منفرة، وكلما دخلنا عليه رأيناه يتصفح المرآة يمشط شعره المتجعد أو يتشاجر وشخص مجهول بالتلفون وقدماه مرميتان بإهمال على سطح المكتب، ويخلع ملابسه العسكرية ويودعها الكيس ثم يرتدي ملابس مدنية مهترئة، ويسرع إلى موقف السيارات ويقفز على متن الحافلة التي تقله إلى شارع قريب من منزله، وفي الصباح تجلبه إلى الإدارة الحافلة نفسها، فيخلع ملابسه ويرتدي اللباس العسكري مع الرتبة، ويشبه يومه الجديد الأيام السابقة، أما نحن فلم يكن لنا خيار سوى قبول ما يجري في المكتب، لا سيما وأن ذلك يتم تحت نظر مدير الإدارة، العقيد رشيد.
كان الفصل شتاءً وموجة قوية من الأنفلونزا والزكام أصابت معظم العساكر، وهو بالذات كانت جيوبه الأنفية تتأثر عند أقل تقلب في الطقس، حتى في الأجواء المعتدلة خلال الفصول الثلاثة الأخرى، هل هذا السبب الوحيد هو الذي دفع بنا في عواقب زيارة مفاجئة قام بها الرئيس أم إن تهاوننا في التبليغ عن ممارسات الضابط الشاذة هو السبب؟ وتساءلت أكثر من مرة عما يجعلنا لا ننذر مدير الإدارة بالخطر الناجم عن وجود هذا الضابط البغيض في إدارتنا! وكيف ننذره عن ممارسات تتم تحت أنظار الجميع! مدير الإدارة يعرف ذلك ويغض الطرف عما يفعل نائبه ما دام الأخير لا يزاحمه على سلطته ولا يطالبه بمستحقات أكثر، وهذا جل ما يتمناه. لتذهب كل هذه الافتراضات أدراج الريح ولنعتبر أن اللوم لا يقع على شخص بعينه، لكن ما لا جدال فيه أن الأقدار أعمت أعيننا وطمست على عقولنا بحيث لم ننتبه إلى الخطر الداهم الذي يوشك أن يسحقنا، ولم نفق من سباتنا إلا حين نزل القدر، وكان الأوان قد فات، كانت قد أتت في المساء فرقة الحرس الرئاسي بكلابها المدربة على اكتشاف الفخاخ والكمائن، ومشت المباني والمكاتب المقرر أن يزورها الرئيس، وبالغت في التحري والتفتيش. حطمت أبواب المكاتب المغلقة التي غاب أصحابها، ونبشت الحقائب والصناديق المقفلة والأدراج الخاصة بالقاطنين في الموقع، ولم يجرؤ أحد على الاحتجاج بسبب الإجراءات والمظاهر الصارمة التي أقفلت الأفواه وملأت النفوس بالرهبة. وجدت صندوقي محطماً ومحتوياته مبعثرة في أرجاء السكن الجماعي الذي نطلق عليه اسم العنبر. كان عشرات الحراس منتشرين بأعالي المباني القريبة، والبنادق الأوتوماتيكية الأميركية الصنع في أيديهم في وضع الاستعداد، والكلاب المدربة تمشط بأنوفها المكان بحثاً عن المتفجرات، وفي كل منعطف نجدهم متربصين ينظرون إلى كل شخص بارتياب، حتى شعرنا بأننا غرباء في معسكرنا، وألمَّ بنا الضيق الشديد وتبادلنا النظرات التي تحمل معانٍ كثيرة، وفي قرار أنفسنا كرهنا الزائر القادم وحراسه الذين يبالغون في التفتيش إلى درجة الاستهانة بالجنود ومقتنياتهم الخاصة، لقد حطموا كل شيء بما في ذلك، آمالنا في وضع أفضل، ولم أجرؤ على التبرم كما كنت أفعل في بعض المواقف التي تمس حقوقنا، فالحرس الخاص بالرئيس الذي يحمل منصب القائد الأعلى للجيش، لا يتورعون عن دهس وسحل أي صاحب رتبة عسكرية دون أن يلحقهم أي عقاب، إنهم بالنسبة للناس كالغيلان أو الكائنات الخرافية التي سمعناها في طفولتنا، وحين تمر مواكبهم في طرقات المدن يحطمون السيارات التي تقف لسببٍ ما في طريقهم، وقد يدهسون المارة والكلاب والقطط، ولم أكن أصدق كل ما تنشره صحف المعارضة عن ضحايا حراس الرئيس، ولكن منذ ذلك اليوم صدقت كل شيء مما يحكى عنهم، ولم أجد في نفسي أي حماس لرؤيته في الغد. بل لقد عرفت أنني وأمثالي من الجنود لن نستطيع رؤيته عن قرب بسبب الإجراءات المعقدة التي تحيط به. لكنا استغنينا عن فكرة النظر إليه، ونمنا والحراس يحصون أنفاسنا، لم نكن نتوقع أن يكون الغد مختلفاً عن غيره من الأيام التي لا تحمل في ثناياها أي شيء جديد، في الصباح تتابعت عشرات السيارات المضادة للرصاص، وانتشرت في المكان.. وهبط الرئيس، واستقبله قائد الموقع العسكري بابتسامة عريضة محاولاً أن يبذل كل ما في وسعه لإرضائه. بدا المكان نظيفاً ومزيناً تفوح منه رائحة الطلاء، وكان من المقرر أن يزور الرئيس المبنى (ج) ثم (أ) ثم (ب) كما هو موضح في جدول الزيارة، ولكنه كان متقلب المزاج لا يتقيد بجداول المواعيد والزيارات، لذا بدأ من آخر الجدول، أي عرج باتجاه المبنى (ب)، وتقدمت الكلاب شاهرة أنوفها المفرطة الحساسية، وقادتهم إلى مكتبنا. كان الضابط الغريب الأحوال قد أتى من منزله ومكث بعض الوقت لا يحرك ساكناً، ثم بدأ يرتدي ملابسه العسكرية بلا حشمة متأهباً للخروج لاقتناص لحظة الزيارة، ولعله بالغ في كي بذلته وتلميع حذائه، وكان هادئاً لا يعلم بأن الزائر متجه إليه، قيل أنه اندس تحت طاولة المكتب العريضة محاولاً إخفاء جسده العاري عن الأنظار، لكن الأوان قد فات على أي تصرف ماكر، حيث داهمته الكلاب، وجعلت تسحبه خارج الطاولة، وأمسك به الحراس في حال من الخوف والارتباك، وتلبد وجه قائد الموقع بالخجل ثم بالغضب، ولم يعد هناك ما يقال في مثل هذا الموقف المشين، كان الرئيس يسد أنفه متأففاً بفعل الرائحة الكريهة في المكتب، ونظر إلى قائدنا نظرة متقدة مستفسراً:

ـ ماذا يجري هنا أيها القائد؟

وبالكاد أجاب قائد المعسكر:

ـ لا شيء خطير يا أفندم. إنه ضابط ضل طريقه، وسيعاقب بالتأكيد.

وانسحب الرئيس وغادر المعسكر غاضباً، وحصل لأفراد الإدارة كثير من العقوبات، بما في ذلك الحجز والتمارين الشاقة والطوابير الليلية، حتى تمنينا أن نموت ونرتاح من شر ذلك اليوم المنحوس، وحز في نفوسنا أننا غير مذنبين، وهذا جعلنا غير راضين عما لحق بنا من ظلم. ولكن العقوبة عمت وشملت، ولعل نصيبنا منها كان الأقل، وهذا حمل لنا بعض العزاء، مدير الإدارة لم يسلم من اللوم، ونفي إلى معسكر ثمود في إحدى المحافظات البعيدة، أما الضابط البغيض فقد اختفى على نحو غامض، وتضاربت الأنباء حول مصيره، البعض يقول إن الاستخبارات العسكرية اصطادته، وهو حالياً يقبع في السجن الحربي، والبعض الآخر يؤكد ما تسرب من إدارة القوى البشرية عن حصول الضابط على قرار فصل نهائي عن الخدمة في الجيش، لكن ما حصل ورأيناه بأعيننا بعد سنوات هو أن وجدنا ذلك الضابط وقد أصبح قائد معسكر كبير في إحدى المحافظات الصحراوية.

 

 

* كاتب وروائي يمني

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى