شعرية العاطفة.. قراءة في نصوص الشاعر أفضل فاضل

حمدان طاهر

 

كل قصيدة هي محاولة للوصول إلى الحقيقة, والحقيقة هنا تتسع على قدر موهبة وإبداع الشاعر. إنها بحث دائم عن عالم آخر, عالم الشاعر الباطني المكتنز بالتجارب والإحساس, فالعالم الأكبر ينطوي تحت جناح هذه النفس البشرية. من جماليات القصيدة التي تحافظ على دفقها الفني واللغوي هي العاطفة الإنسانية, والعاطفة هنا ليست محاولة لاستدرار العطف بقدر ما هي حفر داخل المعنى والوجود البشري برمته. إنها استكشاف لمناطق خفية في الذات, وفي الحياة وما فيها من تناقضات وإشكالات وجودية.

أقود هذه المقدمة للتعريف بما يكتبه الشاعر والقاص أفضل فاضل. يقول الكاتب المسرحي الفرنسي جان كوكتو “الشعر ضرورة وآه لو أعرف لماذا؟”, ما زال هذا السؤال قائما رغم هيمنة السرد وطغيان ثقافة الصورة والإسهال الكتابي الذي نراه هنا وهناك في وسائل التواصل الأجتماعي.

تنبع ضرورة الشعر من الكشف والتنقيب والبحث في معنى الوجود وما يرافقه من الأسئلة الكبرى, فالشعر صرخة في عالم صامت على خوائه, وهو ضوء وطريق يصل إلى إعماق النفس البشرية. يشتغل أفضل في كتابة نصوصه الشعرية على العاطفة الإنسانية, وما فيها من ثراء وبوح وجمال معرفي كبير وهو ما يشترك معه شعراء كثر. المختلف في حالة الشاعر هنا هي إدخال القارئ والمتلقي ليس في داخل النص والسير معه حتى النهاية, إنما سحب القارئ والتفكير برأس واحد والقول ماذا لو أن ما حدث لم يحدث؟
خُذ بيدي
لا، لن آخُذَ بيدك،
بل أنت من سوف يأخذ بيدي
ما زلتُ مهزوماً جداً أمام هذه الأسمال الثَـرّة التي تَلبَس،
ما زلتُ لا شيءَ عند هذا الرأس المُطأطئ المكسور،
ليتَ لي انكسارك.
هذا النص هو مثال عن نصوص الشاعر. إنه هنا يخاطب أحد الفقراء الذين تقطعت بهم سبل الرزق والعيش الكريم, مقدما له آيات الإعتذار عن كل أخطاء الحياة التي دائما تسحق كبرياء وإنسانية الإنسان. وهو ليس نصا تبريريا كما يبدو, أن الشاعر هنا يطالب الشيخ الفقير بأن يأخذ بيده ويتمنى وهو المفجع في الأمر بأن يكون له انكسارا مثل انكساره وهي ذروة المعنى العاطفي والشعري في آن.
ثم انظر كيف يختم النص بهذا التعبير الصوفي الصادم:
أنتظرُ متى يشُمُّ اللهُ ما تبقّى من طينك على أصابعهِ
فينظُر ُ
و يَـرى.

في نص آخر يتحدث الشاعر عن أمه وهو ماريبدو في ظاهر النص, رغم أن النص يحتمل عدة قراءات أخرى. الأم هنا هي أمه التي ترك فراقها في قلبه جرحا لن يندمل, وهي بغداد مدينة الطفولة والصبا حيث دجلة والنخيل والشواراع ورائحة الناس, وهي البلاد بكل ما فيها من حب وشجن وفرح شحيح وحروب دائمة:

كانت خلسةً، ليلاً، تُوصدُ بابَ غرفتي بعد أن تُعبّئ غفوتي بما يكفي من الأحلام،
و تنسى دائماً بابَ الحنين في القلبِ، على مصراعيه مفتوحاً
و في مرّةٍ نسيتُ
وأخطأتُ
فهرَبتُ
بعيداً،
من ذلك الباب
……
مَن غيركِ أنتِ،
يُرْجعُني و يوصد الباب…….!؟
. . .
طفلُكِ أُمّاهُ
ما زال ذاك ….
يخاف أن ينام
و قلبُهُ مفتوح.

آخر مثال أسوقه هنا للدلالة على تفرد الشاعر وموهبته الكبيرة:
حين يهطلُ المَطَـر،
اخرُج ْ
ودَعْ جيدك يَبتَلُّ،
فربّما يُزهرُ جسدُك:
أيها الإنسانُ التراب.

الشعر الحقيقي لا يعكس الواقع بل يسبقه كما يقول الشاعر الراحل فوزي كريم في كتابه “ثياب الإمبراطور” وهو ما رأيته وقرأته في نصوص أفضل فاضل التي تعطي للنص البعد الروحي والإنساني، مسافة كبيرة دون أن تخسر بوصلتها المؤشرة دائما نحو الإبداع.

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى