فضاءات الدهشة

يهتم بالكتابة المدهشة..رئيس التحرير أحمد الفلاحي

كتابات

تعالق الذات والموضوع في مساء مسربل بالينابيع

فتحية دبش

 

قراءة في نص “مساءٌ مسربلٌ بسر الينابيع” لجاسم خلف إلياس

النص:

((إلى من جعلت عمرينا كرنفالات شوق و مسرات))

حين يسربلني المساء بسر الينابيع
وينثر الشوق مسراته زنابق وردية
وتدندن اللهفة أغنية سفر مرتقب
يتموسق اللظى بين الـ(هنا) و الـ(هناك)
تنويعات لحن أبدي
********
يأتي المساء
والحلم ما زال يختم ذاكرتي ببريق عينيك
فتصهل الفضاءات……
وترتمي الاشواق بوحا يمور في الروح
فأرش النار على هشيم العواصف
وأوقظ البهاء في الشرفات
كي
تواصل التباريح لوعتها الباذخة
وتغوص في العمق
هسهسات قلب
ينادي: أحبك
**********
ها هي المساءات
تغمرني بانهمار الورد
فأقبل وردة وردة
وألقّن المواسم صيحاتي المستجيرة بالدهشات
وأدنو في فرح
كي أبقى
أهش كل مساء بأغصان التفاح
فيجيء وقع خطاك كل صباح
*************
تأتين
وشهقة الصباح
ما زالت تبتكر
لعبة التسلل إلى مباهج المرايا
ما زالت تلوب الواردات والشاردات
فأبصرك في بهاء ملكي
تناورك نار الولع
ووجهك الوضاء
يختصر عتمات البوح
فأتوسد فيض الحنان وأعندل مشاكسة الصمت
بيقظتي المتوجة بالملاذات.

__________________________

*تعالق الذات و الموضوع:
كنت بدأت دراسة أفردها لقصائد منتقاة أعتني فيها بعالم د. جاسم خلف إلياس الشعري و تعالق الذات و الموضوع، حين تكون الذات ذاتا بوصفها معمارا من الإنفعالات يؤثث الكينونة و في الآن نفسه تكون موضوعا فتتكتبها اللغة و الصور الشعرية و تهديها للقارئ كرنفالا من الألوان و نبضا يراقص الحياة في عالم يهدده الخراب و الغياب المتكرر.

يبني الشاعر نصه على ثلاثية التشكيل: العنوان، الإهداء، المتن.
و إذا كان العنوان و المتن متلازمة تجمع بين النصوص الكبرى و النصوص الصغرى فإن الإهداء عادة يلازم النصوص الكبرى و يبقى استثناء في النصوص الصغرى.
فهل أراد بنا الشاعر و هو يضع إهداء للنص اعتبارَ هذا النص أو غيره من النصوص المرفوقة بإهداء أثرا بكامله مستقلا عما بعده و عما قبله؟
هل هي لعبة التوق إلى الخلود عبر العَبِّ من مسرات القصيد ليخرج به من الضيّق إلى الأوسع؟
و هي لعمري، تعبير أرقى على كينونة الشاعر، و هنا لا أقصد فقط د. جاسم موضوع التعليق، و إنما كل شاعر حيث أن كل قصيد هو انبعاث جديد و هو وجود جديد للشاعر…

(مساء مسربل بسر الينابيع)، في العنوان تقاطع يبدو بين الزمن كوحدة قياس و بين الزمن ك كائن لا منته… (الينابيع/الحياة)
غير أنني لا أجزم بكونه أراد ذلك و إنما التدليل هنا لا يحيلنا على الزمن الآفل بقدر ما يحيلنا على عالم رومنسي ايروتيكي بالأساس، حيث المساء زمن صفاء بين زوجين، حين يخلع الواحد عبء الحياة الصاخبة المحكومة بنواميس موضوعية ليرتمي في حضن الزوجة/ الحبيبة التي تهدهد قلق الكائن اليومي و تعود به إلى عالم لا يخلق نواميسه إلاّهما.
فتعود به إلى سر الينابيع حيث ينبعث من جديد.
و هنا يضعنا الشاعر في بوتقة الفلسفة الوجودية السارترية، أليس الحب ممارسة و شعورا دليلا على الإنبعاث و التجدد و على أن للوجود تبريرا كما قال سارتر في إحدى رسائله ل سيمون “هاهنا أساس الحب، حين نشعر أن وجودنا مبرر”.

(إلى من جعلت عمرينا كرنفالات شوق و مسرات)
يبدو الإهداء معادلا موضوعيا للمتن، حين يلخص رؤية الذات الشاعرة التي ترى المساء مسربلا بسر الينابيع نوعا من التحول من:
ال انت— إلى من
ال انا—- الذات الشاعرة
ال نحن——عمرينا/الحبيبان

و هنا لا استطيع الفكاك من انطباعي النسوي و الأنثوي في معالجة نصوص الحب و الأيروتيكا في الأدب العربي إذ تخرج المرأة من موضوع حب في الكتابات الرجالية إلى ذات تشاركه عملية الحب شعورا و ممارسة بل هي التي تملك الفعل فتحول عمريهما إلى كرنفالات شوق و مسرات.

في المتن يعتني الشاعر بلغته فتأتي مكتنزة و بصوره فتأتي وردية، و تبقى الهيمنة للقاموس الزمني و كأن الذات الشاعرة تجابه أفول الزمن الفيزيقي لتنكتب أسطورة بكل ما في الأسطورة من خوارق.
و يتحول المساء إلى تلك الصيرورة و الفعل المعاند للعدم.
إن إنسان العصر الحديث يعيش أزمة السرعة و يجاهد في الدوران عكس الساعة، و ليس إلا الحب شعورا و ممارسة، لحفر الخلود و مجابهة الزوال و الغياب، و إلا ما وصلتنا روايات الحب…

القصيد مخاتلة بين الكشف و الستر، لعبة شبقية تروض الفعل و الكينونة تماما كما هي لعبة الحب حين يمارس الإنسان لعبة الغواية، لعبة الحياة و الموت، لعبة الإنبعاث الأكبر، أليست هي اللعبة التي استمر من خلالها الإنسان…
و تصبح اللذة لذة الذات بالموضوع و لذة الموضوع بالذات، فيكون الواحد منها ذاتا و موضوعا مقاسمة و لذة الإنتصار على الغياب بالمرايا و لعبة الوجود مقابل العدم.

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *